إنّهَا بُخَارٌ … مقال افتتاحي لقداسة البابا تواضروس الثاني في مجلّة الكرازة

تجدون في التالي المقال الإفتتاحي بقلم قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة، في مجلّة الكرازة، تحت عنوان "إنّهَا بُخَارٌ".

كنت فى طفولتى اسمع عبارة ”الحياة قصيرة” اسمعها من الكبار فى مواقف الوفاة وارتبطت فى ذهنى انها تخص قصار القامة الى ان جاء يوم وتوفى شاب من عائلتنا وكان طويلاً وسمعت نفس العبارة وعدت الى ابى اسأله لماذا لا نقول ”الحياة طويلة” بأعتبار المتوفى طويلاً ؟! وتعجب أبى من السؤال وبدأ يشرح لى معنى ”الحياة قصيرة ” بكلمات محدودة تراعى سنى وفهمى وإدراكى.

ومرت السنين والعبارة تتردد أمامى من كثيرين وبدأت رويداً رويداً افهم معناها العام ان الإنسان مهما عاش وامتد عمره الى السبعين والثمانين او حتى التسعين وربما المائة او ما يزيد فإن حياته قليلة السنوات بأعتبار الزمان الذى يمتد منذ الخليقة الى أن تنتهى حياة البشر ويأتى الديان العادل, فيكون عمر الإنسان الذى عاشه بمثابة قطرة فى محيط شاسع أو نقطة فى موسوعة كتب ضخمة.

وظل مفهوم الحياة قصيرة يداعب افكارى بين وقتاً وآخر وإن كانت فترة الشباب والحيوية والانطلاق نحو مستقبل بلا حدود تذهب بهذا المعنى بعيداً وربما نتنساه ونحن فى نشوة النجاح والإنجاز والتقدم وتأتى أعياد الميلاد الصفرية :10 ثم 20 ثم 30 ثم …الخ فتعطى جرس إنذار أن العد التصاعدى بدأ وسيكون هناك حتماً عداً تنازلياً لأن الحياة قصيرة .

وشاءت الاقدار فى عمر الاربعين وما بعدها بقليل أن أسكن فى مكان قريباً جداً من خطوط السكة الحديد وبعيد بمسافة أثنين كيلو متر عن محطة القطار ولذا فحركة القطارات دائماً ذهاباً واياباً بسرعة ثم تهدأ وهى تدخل المحطة أو العكس بطيئة ثم تسرع عندما تغادر المحطة ..وهكذا يظهر القطار أمام مسكنى ثوانى معدودة ثم يختفى ..وإن كان يأتى بصوته ومحركاته وصفارته وضوضائه فى هذه الثوانى القليلة ثم يعود كل شىء ساكتاً وهادئاً صامتاً صمت القبور!!

ووجدت ان مفهوم الحياة قصيرة يتطابق مع حركة القطارات وإن صخب الحياة وازماتها ومشكلاتها وصراعتها تشبه اصوات القطارات التى سرعان ما تتوارى وتخفت وتختفى ويأتى غيرها…وبدأت فى قراءة كتب عن شخصيات كانت وظهرت على مسرح الحياة فى مجالات عديدة وانجزت علماً او ادباً اوفناً أو ثقافة او اختراعاً او اكتشافاً او… وإنتهت حياتهم لان الحياة فعلاً قصيرة…وكانت متعتى هى قراءة مذكرات المشاهير او مشاهدة الافلام الوثائقية التى تحكى عن قامات بشرية ظهرت فى حياة الاوطان والأمم تمثل بطولات ونماذج ممكن أن يتعلم منها الإنسان, إن أراد, فتكون نبراساً لحياته ودافعاً له على أن يكون مؤثراً وفعالاً …

ورغم اننى قرأت الكتاب المقدس مرات ومرات وحفظت منه الكثير من الايات والعبارات إلا ان مقولة القديس يعقوب أحد تلاميذ السيد المسيح التى قالها فى معرض رسالته (يعقوب 4 : 14) متضمنة سؤالاً وجواباً فى ذات السياق, إذ قال : ” لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلًا ثُمَّ يَضْمَحِلُّ” كانت شرحاً بليغاً وافيراً عن مفهوم أن الحياة قصيرة … وكانت إجابة شاملة كافية عن ما هية الحياة فى حقيقتها وماهيتها.

وهذا التعبير البليغ عن الحياة انها “بخار” يصف علمياً وحقيقياً طبيعة حياة الإنسان حيث أن البخار فى تركيبه الكيميائى عبارة عن ماء تبخر وصعد عالياً فى السماء ليصير سحاباً تتساقط منه الامطار التى تملأ البحار والانهار ليعود الى الارض, تماماً كما قيل عن الإنسان أنك تراب والى تراب تعود.

والبخار الذى يتصاعد من فوهة إبريق ماء يغلى مثلاً يأخذ فى الفراغ أشكالاً واشكال وكأنها بشر حيث يرسم البخار لوحات فنية عديدة لاجسام الناس صغاراً او كباراً ولكن سرعان ما تتلاشى هذة الاشكال وتنتهى فى أقل من الثانية ولذا فهى تقدم وصفاً واقعياً لحياة الانسان القصيرة ..

وفي حياتى مررت بأحداث توصف كأنها بخار لاشخاص عشت معهم زماناً فهذا كان صديقى المقرب وكان يتباهى دائماً بانه لم يذهب للطبيب أبداً لانى كنت أذهب كثيراً الى الطبيب بسبب نزلات البرد والزكام والانفلونزا المتكررة وكنا اصدقاء منذ الصغر حتى الدراسة الجامعية وفى السنة الاخيرة سافر الى أوربا كعادة كثير من الطلبة فى تلك الازمنه (سبعينيات القرن العشرين ) وعندما وصل المطار فى تلك الدولة الاوروبية وهو ينزل من الطائرة انزلقت قدميه على سلم الطائرة واصيب بكسور فى يديه ورجليه الزمته ان يبقى فى المستشفى فى تلك الدولة طيلة ثلاث شهور ويعود بعدها ..ويكمل الدراسة ويتخرج وما هى إلا اعوام قليله ويتوفى بسبب ازمة قلبيه حادة …والحياة قصيرة ..

وآخر عرفته وهو يقترب من الستين ووجدته شخصاً مباركاً من الطلعه الاولى ولذا اسندت له مسئولية هامه والتى قام بها بأفضل مما كنت أتوقع ولكن بعد سنوات معدوده على أصابع اليد الواحدة تنتهى حياته فيكون كبخار ظهر قليلاً ثم اضمحل تاركاً بصمة روحية غالية…

هذا المقال نُشر على موقع الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

مجلس كنائس الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية

Next
Next

مستقبل المسيحيّة في الشرق الأوسط