انتفاضة على دوغماتيّاتٍ ملتبِسة!

LYNN9213-zs.jpg

بقلم زياد الصائغ[1]

"إن التاريخ يؤكّد أنّ التطرّف الديني والقومي والتعصّب قد أثمر في العالم، سواءٌ في الغرب أو الشرق، ما يمكن أن نطلق عليه بوادر حرب عالمية ثالثة على أجزاء"1. في متن هذا النص كثافةُ من معاني جيوبوليتيكية مغروسة فيها تحذيراتُ مؤسِّسة من خطورة استمرار تشويه المعطى الديني لأغراض سياسية مدمّرة، في حين أنّ هذا المعطى قائمٌ في جوهره على الأخوّة والسلام، والسياسة مؤدّاها الخير العام بما هي حسن إدارة الشأن العام.

 

المشهدية التاريخية التي جمعت البابا فرنسيس وإمام الازهر الشيخ أحمد الطيّب في أبو ظبي تستأهل تفكّراً عميقاً في مبادرة دولة الامارات العربية المتحدة الاستثنائية من ناحية، وتجرّؤ البابا والإمام على مرحلة تتصاعد فيها الشعبويّات من ناحيةٍ أخرى. بين المبادرة الاستثنائية والتجرّؤ تلاقت مساحاتٌ قِيميّة تنتفض على الدوغماتيّات الملتبسة. لكنّ هذه المشهدية التاريخية والوثيقة العميقة الشاملة التي انبثقت عنها تقتضي متابعة عملانيّة. في هذه المتابعة استدعاء اللاهوت التاريخي والفقه التاريخي الكائنين في الانتساب لخيار الوحدة في التنوّع. وحدة الإنسانية أمام الله بمعزلٍ عن التمايزات التعبيريّة للحقائق الإيمانية.

إستدعاء اللاّهوت والفقه من باب التاريخيّ يحتِّمه هذا التسابق حول تماسك خيار الاعتدال في مواجهة هجمة خيار التطرّف. في الجريمة الدمويّة في نيوزيلندا ثبُت التحالف الموضوعي القاتل بين معسكري المتطرّفين، وهذا يدعونا الى مقاربة هادئة في ثوابت هذا التحالف الموضوعي الأبعد من أن تُزجّ فيه الأديان عاملاً مؤجِّجاً وحيداً في الصراعات. العوامل الثقافية والاقتصادية – الاجتماعية والسياسية تتصدّر على العامل الديني. المعضلة تكمن في موضعة العامل الديني ضمن منظومة إيديولوجية يُؤبلَس فيها الآخر المختلف بالاستناد الى العوامل التي أسلفنا ذكرها. من هنا يجب علينا البحث في كيف انتقل الحدث في الغرب، ومذ تفاقمت خيارات البعض في مواجهة المهاجرين اللاجئين، كيف انتقل من مُربّع تزخيم الانصهار الوطني، الى مأزوميّة إدارة التعدّدية. ليس صحيحاً أن المواجهة في هذا السياق اختصارٌ لتقابلٍ مسيحي – إسلامي. على كثيرٍ من التبسيط يتبدّى الجنوح الى هذا الاختصار. البابا فرنسيس وإمام الأزهر، وليت السيّد السيستاني والبطريرك الأرثوذكسي المسكوني ومجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط، ليتهُم معاً يتلاقون في الثقل القِيمي الذي يختزنونه، ليطلقوا مساراً بنيوياً في السياسات العامة، يعيد الى السياسة والتربية والاقتصاد والايكولوجيا معياراً ديونتولوجيّاً أكثر منه مرتكزات علميّة. المرتكزات العلميّة سائرةٌ الى بلورةٍ أكثر وضوحاً يومياً. لكن الأداء العملاني بعيدٌ عن هذه العملية ما زال بدايةً، وتغيب عنه الأنساق الأخلاقية من ثمّ، وهنا بيت القصيد.

 

حسٌ ديني نقيّ

في أيّ حال، وبقدر ما تبنّت "وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك" صيرورة تنزيه الأديان عمَّن يستغلها في تسعير العنف، بالقدر عينه ذهبت باتجاه التأكيد على "أهميّة إيقاظ الحسّ الديني، والحاجة لبعثه مجدداً في نفوس الأجيال الجديدة عن طريق التربية الصحيحة، والتنشئة السليمة والتحلّي بالأخلاق، والتمسّك بالتعاليم الدينيّة القويمة لمواجهة النزاعات الفرديّة والأنانيّة والصداميّة، والتطرّف والتعصّب الأعمى بكل أشكاله وصوَره"، مُلفت الاتجاه في هذا الاقتطاع من الوثيقة الى إيقاظ الحسّ الديني، وجَدَليٌّ في الوقت عينه. الجدلية تتمحور حول أن هذه اليقظة تمظهرت بـ "صحوةٍ عنيفة" و "صحوةٍ انعزالية" حتى الساعة. أليس هذا ما عايناه في الشرق الأوسط والعالم العربي في الأعوام العشرة الأخيرة؟ أليس هذا ما نعانيه في الغَرب في السنتين الأخيرتين تحديداً فيما يتعلّق بتعالي أصواتٍ أن مجتمعات هذا الغرب تواجه تغييراً في الهوية؟

قد يعتقد البعض أنّ الإشكالية في بروز نجم اليمين المتطرّف المسيحي والإسلامي واليهودي، وهذا الأخير تجرّاً على تكريس يهوديّة إسرائيل، بما يغتال حق الشعب الفلسطيني من لاجئيه بالعودة، والمقيمين داخل إسرائيل منه بأحقيّتهم في مواطنةٍ نديّة، قد يعتقد البعض أن هذه الإشكاليات نتيجة مجرّد استغلالٍ للدين لتبرير ممارساتٍ عنصرية، لكن يجب التنبّه الى أن ثمة ما هو أبعد من ذلك ومفادُه بعض فشلٍ في المنظومة التربوية الدينية من تكريسِ نقائها من هذه الممارسات، ما يفترض انسياقاً لبحثٍ هادئ في إعادة هيكلة هذه المنظومة على مستوى المسؤولية الاجتماعية الدينية، أكثر منه اندفاعاً في تعميم مفاهيم عقائدية حصراً. على الأرجح كان هذا مُراد مندرجات الوثيقة في عمقها الاستراتيجي. أضيف اليها ترسيخٌ لمبادئ العدالة الاجتماعية كبنيةٍ ناظمة لتلاقي التعدّديّات على حُسن حوكمة الموارد المشتركة تفادياً لمأساة المشتركات على ما هو جليٌّ في الظُلم، والحروب، والاحتلالات، والهجرة واللجوء، والتي هي سِماتٌ مخيفة لعالمنا اليوم.

 

انتصارٌ مسكوني

وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك بداية انتفاضةٍ جديّة على التعبئة الديماغوجية للأديان، ونقطة ارتكاز لعودةٍ الى الجذور. التحدّي يكمن الآن أن تنقٌلها المرجعيّات الدينيّة المسيحية والإسلامية الى حيّز السياسات العامة حيث المعطوبيّة باتت تشي بتصدّعات كُبرى. الوثيقة انتصارٌ للخيار المسكوني في العيش معاً.

[1]  مستشار السياسات والتواصل في مجلس كنائس الشرق الأوسط

2  "وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك"

Previous
Previous

الإيمان واللاهوت والتجديد