مريم الرمز والإنسانيّة الجريح

Dr. Michel Abs, MECC Secretary General .jpg

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

منذ بروز جائحة كوفيد-19 وانتشارها السريع في العالم وَوَجْهُ الإنسانيّة لا يكِفّ عن التحوّل.

هذا المخلوق المِجهَريّ قلَب الوجود البشريّ رأسًا على عَقِب وفرض أنماطًا جديدة من التفاعل بين الناس أكان على مستوى الأعمال أمْ على مستوى العلاقات العائليّة والإجتماعيّة.

شهدَت النشاطات الإقتصاديّة تراجعًا هائلًا فتعثّرت قطاعات وكادت أن تُقفل أخرى وصُرِفَ ملايين المستخدمين من حول العالم من أعمالهم فارتفعت أعداد العاطلين عن العمل وازداد الفقر وتدنّت مستويات الحياة حتى في المجتمعات الأكثر وفرة.

أمّا العلاقات العائليّة والإجتماعيّة فقد شهدت أيضًا تبدلًا في الكثير من ثوابتها تحت ضغط هذا الوباء الذي لا يرحَم. فقد ألغيت اللقاءات العائليّة كما لقاءات المؤانسة بين الأصدقاء والحفلات واللقاءات العامّة، ممّا ترك الإنسان في وحدَةٍ بشعة وأضحى الأمر يهدِّد البُنى الإجتماعيّة التي ما زالت تحكم حياتنا منذ عقود. أدّى ذلك إلى انهيار بعض القيم المجتمعيّة، فجفى الناس بعضهم البعض وانطووا على أنفسهم وازداد العنف الأسريّ وسائر أشكال الأمراض النفسيّة والإجتماعيّة.

إلى المرض الجسديّ أضيفت إذًا أمراض نفسيّة - إجتماعيّة متعدّدة وأصبحت البشريّة في حال تراجع شديد بالنسبة إلى ما كانت توصّلت إليه من تقدّم في العقود الماضية.

إزاء هذه الكارثة العارمة نشطت البشريّة تحاول الردّ على التحدّي بما أوتيت من إبداع وعلم ودراية، فاجترحت اللقاحات والعلاجات الجسديّة والنفسيّة وطورت التقنيات التواصليّة والتربويّة وغيرها في محاولة لإنقاذ الحاضر بانتظار مستقبل أفضل.

في سياق المعالجات التي تساعد على تخطّي الجائحة، دخلت كنيسة المسيح هذا الخِضَم، فأقامت الصلوات والندوات واللقاءات والمحاضرات والحملات الإعلاميّة من أجل التعامل مع المصيبة التي حلّت بالبشريّة.

في هذا السياق أطلق المجلس البابوي لتعزيز التبشير برنامج “ماراثون الصلاة” بناء على المبادرة التي أطلقها البابا فرنسيس في بازليك القديس بطرس، على نيّة “الإنسانيّة المجروحة". سيشارك في هذا البرنامج مزارات من جميع أنحاء العالم من كوريا إلى البرازيل، مرورًا بأستراليا والأراضي المقدسة، طوال شهر أيار 2021. مزار سيدة لبنان في حريصا سوف يكون احدى موائل المصلّين في اليوم التاسع والعشرين من نوار.

مريم، الأم، السيدّة، والدة السيِّد، التي تحظى في الكنيسة وخارجها بصفات لا عدّ لها ولا حصر، سوف تستضيف في مزارها، في جبل لبنان، المصلّين من أجل شفاء الإنسانيّة الجريح.

هذا المزار قد شكّل، مذ وُجد، ملاذ صلاة وتأمّل للمؤمنين على اختلاف انتماءاتهم الدينيّة. مريم الأمّ الشافية كانت ولا تزال في حريصا، في جبل لبنان، مصدر إلفَة ومحبّة بين من يؤمنون بالخالق الذي أوجدَها وكلّفها فشرّفها وشرّفنا بها.

الذين يقصدون مزار سيدة لبنان في حريصا يوقنون كم يشكّل هذا المقام الرفيع القدر بيتًا دافئًا لكل باحث عن سلام وطمأنينة، مهما كانت خلفيّته الإيمانيّة.

نجد هناك الحجّاج من كل جنسيّة ومشرب قادمين طالبين للحنان والأمان.

لقد شكّل هذا المزار، في رمزيّته، وفي إجماع الناس على قيمته المعنويّة، شاهدًا على قدرة الناس أن تكون واحدًا امام الخالق وأن تتخطّى الفروقات أمام قوّة محبّة الأم الجامعة للأضدّاد.

مريم الرمز، ترسل لنا رسائل نفهمها بالقلب والروح قبل أن نفهمها بالحِكمَة والمنطق.

لذلك سوف تجتمع حولها البشريّة لكي تقوى بالصلاة فتصبح قادرة على الإستمرار رغم مرارة المرحلة.

مريم، رافقتنا ألفي عام ولن تتوقّف يومًا عن تزويدنا بما نحتاجه من غذاء الروح!

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

في أيار نصلّي مع أمّنا مريم على نيّة الإنسانيّة المجروحة