صلاة للوحدة في زمن التمزّق والضياع

تقديم النسخة العربية من كتاب الصلوات من أجل وحدة المسيحيين

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

من جديد يقترب أسبوع الصلاة من أجل الوحدة وتتحضّر كنائس الشرق الأوسط من أجل الإشتراك به، بعيد موسم ميلاد المتجسّد ومعموديّة الماء.

هذا الأسبوع أصبح تقليدًا كنسيًّا مسكونيًّا وأضحى جزءًا من الثقافة المشتركة للكنائس التي قرّرت أن تعيش مع بعضها في شراكة إيمان رغم تنوّع الإنتماءات.

هذا الكتاب الذي نضعه بين يدي الناطقين بالعربيّة، هو جزء من هذا المسار وهذه الثقافة. كتاب الصلوات هذا هو إنتاج مسكوني بامتياز، يجسّد توق كنيسة المسيح أن تعيش وحدتها رغم الإنقسامات التي عصفت بها تاريخيًّا ورغم التمايز الناتج عن إنتشار المسيحيّة في ثقافات غريبة ومتباعدة عن بعضها البعض. هذا الكتاب اشترك به كلٌّ من المجلس الحبري لتعزيز الوحدة المسيحيّة في الفاتيكان ولجنة إيمان ونظام في مجلس الكنائس العالمي. أمّا بالنسبة إلى مجلس كنائس الشرق الأوسط، فقد قامت دائرة اللاهوت والعلاقات المسكونيّة فيه بنقله إلى اللّغة العربيّة ووضعه في متناول الكنائس، كما كلّ عام.

هذا العمل هو جزء من مسار أشمل يحضّر المجلس للسير به، ويتمثّل بتوثيق العُرى بين كنائس، في الشرق الأوسط كما في العالم، لا تعرف عن بعضها البعض بما فيه الكفاية. إنّها مدعوّة للتفاعل بشكل أشمل وأعمق، وأن تتعرّف على مكوّنات بعضها البعض اللاهوتيّة والثقافيّة. عندها، يكتشف المؤمنون من شتّى الكنائس، غنى وإبداع المسيحيّة وفرادتها وجلال ما قدمته للعالم وللحضارة الإنسانيّة.

أمّا موضوع كتاب الصلوات فهو يُحاكي حالتنا الحاضرة في الشرق الأوسط، لدرجة أنّ القارئ لا يتوانى عن التفكير أنّ "ما أشبه الليلة بالبارحة". لعلّ شيئًا لم يتغيّر منذ ثلاثة ألفيّات. لعلّ التعاليم الإيمانيّة، والقيم التي تنضح بها، لم تغيّر في الإنسان سوى بعض قشور حياته، فيعود بسرعة البرق، عندما يحين الوقت، إلى بدائيته.

"تعَلّموا الإحسان واطلبوا العدل، أغيثوا المظلوم وأنصفوا اليتيم وحاموا عن الأرملة" (17:1). كم تبدو سهلة هذه الإرشادات وكم نرى إنسان العصر الحديث متقلّبًا تجاهها. هو ينتقل من الإحسان إلى الأنانية ومن العدل إلى الظُلم ومن الرِفق بأخيه الإنسان إلى الفتك به. كم هو متناقض إنسان حضارة الإستهلاك والرفاهية والبحبوحة المُفرِطة. هو مِثل الطغاة لا تعلم متى يرضى على شعبه ومتى ينقلب عليه. كم هو متغيّر المزاج مسلّح بنفسيّة لا يقرّ لها قرار. إنّها الغُربة عن الإيمان والتنكّر للباري وانتفاء الورَع.

لقد حدّد مجلس كنائس الشرق الأوسط الكرامة الإنسانيّة كدليل عمل يحدّد مسار نشاطاته ومشاريعه. في الإغاثة والتأهيل والتنمية، كما في اللاهوت والعلاقات بين الكنائس وفي الإعلام ومناصرة القضايا العادلة، كما في الحوار بين مكوّنات مجتمعاتنا، تشكّل الكرامة الإنسانيّة ثابتة تطبع كل أعماله. لذلك أطلق مشروعًا يحمل نفس المسمى ولمّا يزل في بداياته.

هنا، لا بدّ لنا من أن نذكر أنّ الحركة المسكونيّة العالميّة تشكّل إحدى الركائز الأساسيّة لانتشار قِيَم عالميّة لم يعُد حولها من خلاف، وتشكّل مرجعيّة لبني البشر: الإحسان، العدالة والمساواة، حقوق الإنسان، الحرّية وما يشتق منها من قِيَم متفرّعة وأنماط تفكير وسلوك. إنّ الثقافة التي تجمع أبناء هذه الحركة أضحَت صلبة ومتماسكة بما فيه الكفاية لكيّ تبقى وتستمر وتؤثر بملايين البشر. أمّا القيَم الأساسيّة التي بُنيَت عليها هذه الحركة فهي قبول الإختلاف والحوار وهي قيم تأسيسيّة لمستقبل أفضل لبشرّية شديدة التنوّع بالإنتماء الوطني أو العرقي أو الإثني، كما بالأفكار.

لا بدّ لمتصفّح الكتاب وقارئ النصوص أن يتوقف أمام صلوات تحاكي النفس البشرّية في عمق أعماقها وتسبر غورها وتثبت مرّة أخرى كَم أنّ المخلوق البشري هو كائن غامض وكم يحتاج إلى مناجاة خالقه والتوبة إليه في حياة مزروعة بالإثم.

لقد حُبكت نصوص كتاب الصلوات هذا بشكل شيّق وجذّاب، يسهّل على القارئ التعامل معها ويجعلها في متناول شتّى الإتجاهات اللاهوتيّة.

يسرّ مجلس كنائس الشرق الأوسط أن يكون الجسر الذي يعبر عليه كتاب الصلوات من أجل الوحدة إلى العالم العربي، المتعطِّش إلى الوحدة والإنسجام بين مكوّناته، واضعًا بذلك لُبنَة في بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة. 

Previous
Previous

متحدون في الصلاة - ناطرينك 15 كانون الأوّل/ ديسمبر 2022

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يصدر النسخة العربيّة من كتيّب "أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين" 2023