اسمع أيها المخلوق الصغير

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

هي ثوانٍ معدودات ويتغير كل شيء!

ثوان قليلة كفيلة بتحويل العمار دماراً، والاسر المستقرة مشردةً، والاحياء مختفون عن وجه البسيطة، وأصحاب الثروات مستعطون، والمدن العامرة اثراً بعد عين.

ثوان وكله يستحيل رماداً!

الزلزال الذي ضرب شمال المشرق الانطاكي، ذكّر الانسان، مرة أخرى، كم هو مخلوق صغير، عاجز، لا قيمة له دون حماية الخالق.

هو الذي يتجبر ويستكبر ويتعسف ويجور، تجده استحال تابعا محتاجا الى اقل مقومات الحياة كي يستمر.

كم انت صغير أيها المخلوق المتسلح بالجبروت امام هول الطبيعة التي اوجدها الخالق الذي تنساه عندما تكون في ذروة سطوتك.

انت تنسى ان الذي علق الأرض على المياه غسل أرجل تلاميذه ومنح نفسه من اجلك. في عز هيمنتك تنسى.

لا سبيل للدخول في آليات الظواهر الطبيعية من اجل شرح وتأويل ما جرى، في ذلك الليل المشؤوم، حيث دمر شمال المشرق الانطاكي. كل ما عاينّاه هو ابنية تهاوت ومتحدات شبه اختفت عن خريطة العمران.

الذي يهمنا في كل ذلك هو الدروس والعبر لبني البشر.

فليتذكروا دوما انهم مخلوقات صغيرة امام عظمة الخليقة، هذه العطية التي أمعنّا في تشويهها وأذيتها وتغيير صورتها.

قد تكون قد ضاقت ذرعا بالتنكيل الذي يمارسه عليها بنو البشر.

قد تكون استنفذت صبرها من فرط استهلاكها من مؤسسات انتاج تمارس الاجرام البيئي.

قد تكون قد تعبت من طيش المخلوقات الصغيرة في التلاعب بنظامها الذي اوجدها عليها الخالق.

مهما يكن، فإن الامعان في الحاق الضرر بالبيئة، هبة الموجد، قد تعدى حدود المقبول.

في ذروة غيه، نسي المخلوق الصغير كم هو عاجز امام باريها.

كل ما صنَعتَه خلال دهر يضمحل خلال هنيهات.

 

كل هذا يستحق منك وقفة تأمل يا أيها المخلوق الصغير!

قل لي، هل صفعك مشهد الأبنية المنهارة وانت تعرف ان في ثناياها بشر يئنون ويحتضرون؟

الم يذهلك منظر الحجر الذي سحق البشر؟

الم يؤلمك صراخ الأطفال يستنجدون للخروج من تحت الأنقاض؟

الم يقض مضاجعك نواح الناس على من فقدوا؟

انه لمشهد من أبشع ما يمكن ان يعاينه المرء في مسار الحياة.

ناس لا ذنب لهم سوى انهم وجدوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.

السؤال الذي لا مفر منه، ونحن نستعرض شريط الانهيارات وعمليات الإنقاذ، هو ان كيف لشعب عانى الحصار لأكثر من عقد من الزمن، وفقد مقومات البقاء الأساسية، ان يتعامل مع كارثة من هذا الحجم؟

المعدات غير متوفرة ولا المواد متوفرة، لان من نسي انه ليس سوى مخلوق صغير، اسوة بسائر المخلوقات، يقتص من هذا الشعب الذي وجد نفسه امام هول الزلزال ونتائجه مجردا من كل أساليب التعامل مع الكوارث.

هي كارثة طبيعية في المبدأ، ولكنها، بحكم الحصار، استحالة كارثة مفتعلة...من صنع بني البشر...الاخوة في الإنسانية المفترضين.

ان تحرم شعبا من ابسط مقومات البقاء لأسباب سياسية، هو ليس فقط من باب الاستبداد، بل يُصنف في خانة الإبادة الجماعية.

لا مسيحيتي تقبل بذلك، ولا حقوق الانسان التي انتجتها.

مسيحي لا يستقوي على الضعيف، المغلوب على امره، الذي لا حول له ولا قوة.

مسيحي شفى المرضى وأطعم الجياع واسقى العطاش.

مسيحي لم يقبل بالسيف وسيلة تفاهم بين البشر.

مسيحي لم يقبل بالنفاق وحذر من المنافقين.

ان ممارساتكم تنبينا عن ايمانكم الذي اضعتموه فأصبحتم مجموعات تائهة تبحث عن هوية مفقودة وتمارس النفاق تغطية لازدواجية المعايير.

مسيحي الذي تنكرتم له، وتنكرونه مرات ومرات، كل يوم، قبل صياح الديك وبعده، وتحاولون إزالة آثاره من مجتمعاتكم، لا يزال هو، هو، الامس واليوم وغدا، والى انقضاء الدهر، وهو سوف يسامحكم يوم تعودون اليه، تماما كما عاد الابن الضال بعد تماديه في طيشه وضياعه.

مسيحي، الذي على هديه تعمل الحركة المسكونية المباركة، وكنائسكم وهيئاتكم الانسانية جزء أساسي منها، يبارك خطوات هذه الكنائس والهيئات التي تحاول ان تشهد لتجسده ورسالته عبر تضامنها الذي لا يستكين مع المستضعفين والمظلومين. ها هي، هذه الهيئات المباركة، تتحرك من اليوم الأول للزلزال-الكارثة من اجل تخفيف اوجاع المشردين وتضميد جراح المصابين، في مسار تضامني عز نظيره وعمره عقود عدة من الزمن. 

مسيحي، أرى وجهه في تعابير طفل عالق تحت الأنقاض، في شمال المشرق الانطاكي، مشرق المسيح، وهو يقول لكم "سامحكم الرب على ما اقترفت ايديكم"، ويقول للمسكونيين "بارككم الرب المتجسد اذ تشهدون له"!

اما انا فأسألكم، هل يكفي ماء الدنيا لغسل ايديكم من دماء أطفال المشرق الانطاكي التي هدرتموها، من فلسطين الى العراق، مرورا بلبنان والشام ؟

اشك بذلك!

Previous
Previous

متحدون في الصلاة

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يوثّق مشهد الدمار في سوريا عبر مجموعة صور