التسرب المدرسي او تفخيخ مستقبل أمة

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ عبس هذه الكلمة في ندوة مجلس كنائس الشرق الأوسط الشّهريّة الّتي انعقدت عن بُعد تحت عنوان "التسرّب الدراسي والكرامة الإنسانيّة"، يوم الخميس 28 أيلول/ سبتمبر 2023. تأتي هذه الندوة في إطار سلسلة ندوات مجلس كنائس الشرق الأوسط الشّهريّة وضمن "مشروع الكرامة الإنسانيّة" - "الحوار والتماسك الإجتماعيّ - إعادة تأهيل رأس المال الإجتماعيّ"، الّذي يعمل المجلس على تنفيذه تباعًا.

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

مشهدان يصيباني بطعنة في كرامتي الوطنية ومشاعري كتربوي لعدة عقود من الزمن.

المشهد الأول أطفال الشوارع، يهرعون اليك عندما تتوقف عند الضوء الأحمر، ويتلون على مسمعك دعوات لشحذ الضمائر – من هنا كلمة شحاذين – تعلّموها من ضمن ما تعلّموا في هذه الغابة المتوحشة التي تسمى الشارع. السؤال الأول والبديهي الذي اطرحه كتربوي وكخبير في شؤون العمل، وعمالة الأطفال من ضمنها هو "اين اهلك ولماذا لست في المدرسة؟" وأردف "اذهب إليهم وقل لهم: اريد الدخول الى المدرسة!"

اما الجواب الذي تلقيته لمدة عقود وانا امارس هذا الوعظ هو انهم اما ايتام ويعيلون اخوتهم، او ان أهلهم مصابون بمرض اقعدهم عن العمل، او انهم لاجئون ويساعدون على اعالة اسرهم، او انهم لا اهل لهم. المهم ان لهؤلاء الأطفال الصغار أجوبة معلبة معدة سلفا، لقنهم إياها مشغلوهم الذين نراهم يوزعونهم كل يوم على نقاط الاستعطاء، وقد أحسنوا التلقن كما يحسنون الإجابة بذكاء ودهاء.

المشهد الثاني فتيان تسليم البضائع والذين عمدتهم ثقافة الترف بتسمية "الدليفري". يدق عليك أحدهم هاتف البناء فترد لترى من يطلبك، وإذ به يطلب جارك في طابق ﺁخر وتقول له ان اسمه مكتوب على علبة هاتف البناء، فيجيبك انه لا يعرف القراءة. لا بد ان يكون هذا الشاب قد أصبح في سن الرشد لإنه موظف في احدى الشركات، علماً ان بعضها قد لا يتورع عن توظيف القصّار.

مشهدان عفويان من الحياة اليومية يختصران نتائج التسرب المدرسي وينذران بشكل مرعب من أيقن ان مستقبل مجتمعه مفخخ.

اما المشهد غير العفوي والذي يتخطى المراقبة السوسيولوجية الميدانية، فيكمن في معاينة إحصاءات وزارات التربية في بلداننا او إحصاءات ودراسات المنظمات الدولية المعنية بالتربية. إحصاءات التسرب المدرسي في بلداننا بالملايين ولا برنامج معالجة جذري في الأفق لهذه الظاهرة المرعبة للذين يفقهون في العلوم التربوية او في الإحصاءات والاسقاطات الإحصائية شيئا.

لن ادخل في عرض وتحليل هذه الظاهرة في مختلف بلداننا، لان الباحثين الذين أكرمونا بحضورهم سوف يتكفلون بالأمر بأفضل الطرق، ولكن ما سوف اعرضه امامكم ما هو الا تفكير بصوت مرتفع حول هذه الظاهرة.

ان يكون هناك تسرب مدرسي، وبأعداد ضخمة، ان دل على شيء فانه يدل على ان المجتمع برمته مريض وعلى حافة الهاوية ويتجه الى السقوط بسرعة الجاذبية.

ان يكون هناك تسرب مدرسي فهذا يعني قبل كل شيء ان المجتمع قد فقد طموحه وضحى بتطلعاته على مذبح الفاقة والبؤس.

عندما تتفكك الاسرة لأسباب اجتماعية او اقتصادية يتلاشى زخم التوق نحو التعلم ويتسرب أبناؤها من المدرسة، حتى في درجات التعليم الابتدائي. المشاكل التي تعصف بالأسرة والفقر الذي قد يصيبها وعدم قدرتها على تمويل تعليم أولادها، لا بل تحتاجهم في العمل، كل ذلك يجعل التسرب المدرسي نتيجة حتمية لا مفر منها، لا بل منقذا للأسرة من فاقتها.

الاهل المنهكون بالبطالة والفقر والمرض والذين تلاحقهم الديون، ليس لديهم لا الطاقة ولا الاستعداد النفسي ولا الوقت للاهتمام بتدريس أولادهم، فيرسبون تكرارا ويصبحون فريسة سهلة للتسرب من القطاع التربوي.

عدم استقرار الاسرة بشكل عام، لا مهنيا ولا اقتصاديا، ولا حتى في مسكنها، كل ذلك من أسباب التسرب المدرسي للأولاد.

ماذا يكون مصير التلميذ في حالات مثل تلك؟

لا بد أولا ان يتدنى تحصيله العلمي، فيدخل في نفق الصعوبات التعليمية وعدم القدرة على اللحاق بركب رفاقه في الصف، ويجتاحه الشعور بالعار، فيتكرر تغيبه عن المدرسة، ويتهرب من الذهاب اليها بأعذار شتى او بالهروب منها، وتنتفي عنده قيمة العلم والتعلم، يذكيه الرسوب المتكرر، ويصبح في هذه الحالة ترك المدرسة امر لا بد منه، قد تسبقه فترات من تغيير في المدرسة ظنا من الاهل ان المدرسة السابقة كانت تحمل علة للطالب.

غني عن القول ان الهروب المتكرر من المدرسة قد يرمي بالطالب في براثن رفاق السوء، وما اكثرهم في زمننا الحديث، خصوصا في المجتمعات غير المستقرة، فيسوغون له هجر المدرسة والتنازل عن هدف التعلم، مقابل الهروب الى الحرية بعيدا عن انضباط المدرسة وازعاجاتها. في نفس السياق، قد يروج رفاق السوق للمتسرب المدرسي العمل الذي قد يبدأ مقبولا ويتحول تدريجيا، بفعل الحاجة الى المال او الطمع بمدخول أكبر، غير شرعي ولا شريف.

ولكننا، بعيدا عن رمي الملامة كلها على الطالب واسرته، التي قد تكون أوضاعهم ناتجة عن أوضاع مجتمع مفكك، كما حصل مع كيانات المشرق الانطاكي. لا بد لنا من ان نتوقف امام الأسباب المرتبطة بالمدرسة والتي تؤدي الى نفور الطالب منها والتوق الى هجرها وهجر القطاع التعليمي برمته.

قد تكون المدرسة بعيدة عن مواكبة ركب التقدم التربوي ولا تعرف كيف تخاطب الجسم الطالبي او تتعامل معه.
مواد التدريس، وطرق تدريسها او تقديمها للطالب، وأساليب الإدارة وطريقة معاملة الطلاب وأساليب فرض الانتظام العام في المدرسة، ونوعية النشاطات اللاصفية، ونوعية الجسم التربوي ومستوى كفاياته، وغياب الارشاد التربوي الذي لا يمكن ان يعمل قطاع تربوي من دونه، مما يجعل أساليب العقاب متخلفة وغير ذات جدوى، والتنمر في الصف كما في الملعب بسبب غياب هذا الارشاد،  واكتظاظ الصفوف بالطلاب، اما توخيا للربح ام لعدم وجود اعداد كافية من المدرسين بسبب رواتب الأساتذة، إضافة الى أسباب أخرى لا مجال للدخول فيها، كل ذلك يجعل المدرسة، وإدارة القطاع التربوي على الصعيد الوطني، شركاء في التسرب المدرسي.

اما تبعات التسرب المدرسي فحدّث ولا حرج، اذ انه قاتل صامت ونتائجه تظهر عندما يكون الامر قد أصبح خارج السيطرة.

هو مشروع هدر بامتياز، هدّر للوقت والطاقة والمال والإنتاجية. هو وسيلة تدمير المجتمع على المدى الطويل اذ تنتج عنه مشاكل اجتماعية واقتصادية وغيرها، لا عد لها ولا حصر، اقلها الانحرافات التي تستشري لدى الاحداث وإنتاج جيل غير كفي وعاطل عن العمل، غارق في الهامشية الاقتصادية والاجتماعية.

إضافة الى كل ذلك، يختل نظام توزيع الثروة في المجتمع ويختل التوازن الطبقي ومعه كل مسار التنمية والتوازن الاجتماعيين، وينعكس ذلك زيادة في الفقر الذي يؤدي الى العنف والجريمة.

هو مستنقع تدخل فيه الامة ولا يمكنها الخروج منه الا بخطة طويلة الأمد تحتاج الى ميزانيات طائلة وفرق كفية قد لا تكون متوفرة، لذلك يزيد التسرب تبعية المجتمع للخارج بسبب الاستعانة بخبراء من الخارج ومساعدات خارجية.

انها بؤرة الانحطاط والتخلف التي هي مصير الشعوب المغلوب على امرها، ونسأل الباري ان ينجينا مما هو أعظم دون ان ننسى انه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

Previous
Previous

هذا الشّعبُ يُكرمُني بِشَفَتيهِ، وأمّا قَلبُهُ فبعيدٌ عنّي

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط يصدر تقريره السّنويّ لعام 2022