عظة صاحب الغبطة روفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان، كاثوليكوس بطريرك بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك
في قدّاس الشكر
بمناسبة تقديس الطوباوي إغناطيوس مالويان
20 تشرين الأول 2025
مذبح عرش القديس بطرس – بازيليك القديس بطرس، الفاتيكان
أيها الإخوة والأخوات في المسيح،
نحن اليوم لسنا هنا لمجرد تذكّر رجلٍ من الماضي،
بل لنتقدّم بالشكر لله الذي كتب صفحةً خالدة من الإنجيل، من خلال شهادة حية لأحد خدامه.
هذه ليست مجرد احتفالية،
بل هي جواب الكنيسة على صرخة نفسٍ أحبّت المسيح حتى الاستشهاد.
هي قبولنا لحقيقة أنّ القداسة ممكنة، وأنّ الأمانة لا تزال تملك وجهاً واسماً، وأنّ الصليب ليس هزيمة، بل انتصار.
نحن مجتمعون حول هذا المذبح المقدس لا لتأدية واجب رسمي، بل لإعلان إيمانٍ حيّ: فإنّ الله قد تجلّى في شخص القديس إغناطيوس مالويان، الأسقف والشهيد، وهو يدعونا اليوم إلى إيمانٍ لا يعرف الخوف، إيمانٍ يتكلّم، ويلتهب، ويصمد، ويحبّ حتى النهاية.
نحن هنا لأنّ دماء الشهداء ليست صامتة، بل صوتٌ يرنّ عبر الأجيال، وهذا الصوت اليوم يبلغنا، يسائلنا، ويدعونا إلى اتّباعه.
في إنجيل يوحنا يقول يسوع:
«ليس لأحد حبٌّ أعظم من هذا، أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه»
(يو 15، 13).
هذه الكلمات التي جاهر بها يسوع قبل أن يواجه آلامه ليست مجرد إعلان للمحبة، بل هي نبوءة عن تضحيته:
فهو، ابن الله، قد بذل حياته من أجل غفران خطايا البشرية جمعاء.
وخاصة من أجلنا نحن، الذين آمنّا بكلمته وبقوة صليبه الخلاصي، فلم يكن الموت نهاية، بل بداية خلاصنا.
ففي ذلك البذل الكامل لذاته، وجدنا نحن يقين الحياة الأبدية، والرجاء بأن نكون معه، وفيه، ومن أجله.
وكما قال يسوع للص التائب المصلوب على يمينه:
«الحق أقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس» (لوقا 23:43)،
كذلك نحن أيضاً، في مسيرتنا الإيمانية، يمكننا أن نكون واثقين، أن أي تضحية تُقدَّم من أجل محبة المسيح لن تضيع أبداً.
وعلى هذا اليقين بالتحديد تأسست مسيرة القديس إغناطيوس مالويان، الأسقف والراعي في الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، الذي خلال الاضطهاد الرهيب ضد شعبنا، اختار أن يتبع طريق معلمه حتى النهاية، مقدّماً حياته شهادةً للحق والرجاء في المسيح.
ففي اللحظة الحاسمة، حين عرض عليه العالم أن ينكر إيمانه ليحيا، أجاب بشجاعة وثبات:
«نحن نموت، ولكننا نموت من أجل المسيح»
كلمات بسيطة، لكنها مفعمة بالإيمان. كلمات تعطي معنى أعمق للشهادة المسيحية: إنها ليست نهاية مأساوية، بل شهادة مضيئة، طريق نحو القيامة، نحو الحياة الأبدية، حيث «لا موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع بعد الآن، لأن الأمور الأولى قد مضت» (رؤ 21:4).
القديس إغناطيوس مالويان عاش كلمات الإنجيل وحمل الصليب حتى الرمق الأخير.
فحافظ على رعيته في الإيمان، وتألم معهم ومن أجلهم، وبذل حياته ليشجعهم ويقويهم ويخلّصهم.
دمه المسفوك، مثل دم معلمه، هو بذرة لمؤمنين جدد، وهو شهادة حيّة لكنيسة لا تموت لأنها تحيا بالمسيح.
في زمننا هذا، حيث يُهان ويهمش الإيمان، نحن بحاجة إلى شهود مثل القديس إغناطيوس مالويان.
فقداسته ليست مجرد اعتراف من الكنيسة، بل هي صوت يدعونا إلى العيش بصدق، دعوة إلى إيمان غير مريح، بل إيمان حيّ وشجاع، قادر أن يصمد حتى في أحلك الأوقات.
إغناطيوس مالويان، ككثيرين من شهداء التاريخ الأرمني،
انتصر من دون أن يقاتل: انتصر لأنه شهد لحب أقوى من الكراهية، ولرجاء أعظم من الخوف.
فالإنسان المستعد أن يبذل حياته من أجل الحقيقة، لا يمكن أن يُهزم.
لأن القلب، حينما ينتمي إلى المسيح، فلا الحرب ولا الاضطهاد ولا الموت يستطيعون أن ينزعوا منه حريته: حرية المحبة.
فيا إخوتي وأخواتي، لنبتهج بالرب!
القداسة ليست امتيازاً لقلة من الناس، بل هي دعوة موجّهة إلى الجميع.
اليوم، لم يُرفع القديس إغناطيوس مالويان إلى مصاف القديسين فحسب، بل أُعطي لنا كعلامةٍ ونورٍ ورفيقٍ في المسيرة.
فلنسِر نحن أيضاً على خُطى المسيح، بقلبٍ ثابت، وإيمانٍ نقي، ومحبّةٍ متّقدة.
لأن كنيسة الشهداء هي كنيسة الأحياء، وفرح القديسين هو الوعد الذي ينتظرنا.
فلنُصلِّ من أجل الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، لكي تجد من جديد الطريق الحقيقي الذي رسمه أجدادنا، فتتزيّن بشجاعتهم، وروحانيتهم، وأمانتهم للمسيح.
ولنُصلِّ من أجل جميع المسيحيين المضطهدين في العالم، ولا سيّما في الشرق الأوسط.
ولنطلب شفاعة القديس إغناطيوس مالويان وجميع الشهداء الذين تألموا من أجل إيمانهم، وبقوا أمناء لدعوتهم وهويتهم المسيحية، لكي نستطيع نحن أيضاً، في حياتنا اليومية، أن نملك القوة لنقول:
«نحن نعيش للمسيح، وإن اقتضى الأمر، نحن مستعدّون أن نموت من أجله»