بين التعليم والكرامة، مجتمع مأزوم

English

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس هذه الكلمة في الندوة الّتي نظّمها المجلس تحت عنوان "التعليم في لبنان والكرامة الإنسانيّة"، يوم الخميس 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، في المقرّ الرئيس للمجلس في بيروت.

البروفسور ميشال عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

ان يكون التعليم لا يحظى بالتسهيلات والموارد اللازمة في مجتمع ثروته الأساسية هي موارده الإنسانية، كفاءاته، فهذه ذروة التحديات.

لقد عرف اللبنانيون، عبر تاريخهم القديم والحديث، كيف يستعيضون عن شح الموارد الطبيعية، بالتركيز على القدرات الإنسانية، فأنشأوا مجتمعا قائم على الابتكار والابداع والاقدام والقيادة في شتى المجالات، مما خولهم ان يعيشوا في مستوى حياة يفوق مواردهم الطبيعية بكثير.

منذ القدم استطاعت اساطيل الكنعانيين الفينيقيين ان تمخر عباب اليم بحثا عن المغامرة والثروة وقد أفلحوا فلاحا كبيرا، كانت ذروته انشاء مدينة قرطاجة بعد تجارة الارجوان والفتوحات البحرية التي انجزوها.

هذا في قديم الزمان، اما في العصر الحديث، بعد نهاية الثورة الصناعية، وبعد انهيار البنى الزراعية في جبل لبنان خلال تلك الحقبة، وبين الحربين العالميتين، وخلال فترة الانتداب، وبعدها حقبة الاستقلال، والهجرة الريفية الكثيفة التي عاشها لبنان، وجد اللبنانيون ان التعليم وبناء الكفاءات هم السبيل الوحيد للنهوض بمجتمع تحللت زراعته، وصناعته لم تتعد المرحلة الحرفية، وهي مهددة بالاندثار تحت وطأة مزاحمة الصناعات الواردة اليه من الغرب.

منذ انشاء الجامعات الارسالية في لبنان في القرن التاسع عشر، والتجمعات المدرسية التي ترافقها، ولبنان هو موئل التعليم ومركز تجمع العدد الأكبر من المدارس والجامعات في المشرق الانطاكي، نسبة الى حجمه.

خلال نصف قرن او أكثر، أصبح لبنان يسمى مدرسة الشرق، وجامعة الشرق، وتطور التعليم فيه بشكل كبير، اكان لجهة راهنية المناهج، ام لجهة نوعية المدارس والجامعات، ومستوى التعليم.

والجدير ذكره ان المدرسة الرسمية في لبنان قد تطورت بشكل مضطرد حتى أصبحت تنافس المدارس الخاصة وأصبح طلابها من المتفوقين في الامتحانات الرسمية واضحوا قادرين دخول أفضل الجامعات في لبنان والعالم.

بشكل مواز، تطورت الجامعة اللبنانية، أي الحكومية، بشكل كبير، واتخذت لنفسها مجمعا كبيرا واعدا، واسست كليات عديدة تغطي كافة الاختصاصات الحديثة، وقد اخذت كلية التربية فيها موقعا متميزا اذ هي التي تخرج أساتذة التعليم الرسمي الذين رفعوا مستوى المدرسة الحكومية الى اعلى المستويات، مما رفع مستوى التعلم لدى الطبقات الاجتماعية غير الميسورة واهل أبنائها ان يتابعوا تعلمهم حتى ارفع المستويات.

خلال تلك الفترة، التي سبقت الحرب اللبنانية، وحتى نشوب الحرب عام 1975، أصبح التعليم في لبنان وسيلة أساسية لتعزيز الكرامة الإنسانية عند اللبنانيين، عبر شبه تساوي الفرص في التعليم، إذا استثنينا المهنتين التين تؤديان الى اعلى المداخيل، أي الطب والهندسة، والتين لم تكونا متوفرتين في الجامعة اللبنانية.

أقول شبه تساو للفرص، بمعنى انه كانت تتوفر في المدارس والجامعات الخاصة أمور لم تكن متوفرة في مؤسسات التعليم الحكومية، نظرا للعراقيل البيروقراطية، او لبعض التوازنات السياسية، او المناطقية، او الطائفية.

لم تكن تلك المرحلة نموذجية، ولكنها كانت تعتبر متقدمة جدا بالنسبة الى مجتمع يثمن كل ما يقوم به القطاع الخاص، ولا يقيم أي وزن او اعتبار لما يقوم به القطاع العام.

خلال الحرب وبعدها، تغير الوضع بشكل جذري، اذ قسمت الجامعة اللبنانية الى خمسة فروع، وجرى التضييق على ميزانياتها، وأصبحت ادارتها رهن قوى الامر الواقع خلال الحرب، ورهن منطق المحاصصة بعدها. اما المدارس الرسمية، فحدث ولا حرج عن وضعها الشديد التأزم، اكان لجهة الميزانيات، ام الموارد الإنسانية، او الأبنية ووضع بعضها الذي لا يوصف، او التجهيزات، ولائحة النواقص قد تطول.

اما اليوم فالمشهد يعيش مخاضا عسيرا، اذ ان هناك سباق بين القوى التي تريد ان تجعل من التربية وسيلة لتساوي الفرص بين فئات المجتمع، وتاليا وسيلة للكرامة الإنسانية، والقوى التي لا تهمها هذه الإشكالية.

ان المؤسسات التربوية الحكومية هي الوسيلة الأساسية لتعزيز الكرامة الإنسانية، اذ هي تؤمن تساوي فرص جميع اللبنانيين في مجال التعليم، وتاليا في مجال دخول أبناء الفئات غير الميسورة الى مستويات متقدمة من العلم، وبعدها، الأداء الاقتصادي الاجتماعي.

إضافة الى ذلك، لا بد من إيجاد قانون ضريبي يشجع أصحاب المداخيل المرتفعة على انشاء صناديق المنح للطلاب غير القادرين على متابعة تحصيلهم لأسباب مادية، لان هذه الحالات كثيرة في لبنان وهي تطال عددا كبيرا من الطلاب المتفوقين.

اذا لم يكن العلم والتربية، ومن بعدهما التخصص المهني، وسيلة تساو للبنانيين في فرص التعلم وبناء المستقبل، وتاليا، اذا لم يكن التعليم وسيلة حراك اجتماعي، فانه حكما، ليس من وسائل تأمين الكرامة الإنسانية.

Previous
Previous

فيديو - قديس اليوم 8 تشرين الثاني/ نوفمبر: القديس ميخائيل، رئيس الملائكة

Next
Next

فيديو - قيادات ومواقف