بركة راع ومسؤولية شعب
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
حزم قداسة البابا لاون الرابع عشر امره، ويمم شطر لبنان، والهواجس تسكنه حول هذا البلد المأزوم، والمهدد، والمعذب، لعله يستطيع ان ينقذ ما يمكن إنقاذه من وضع من الواضح انه قد وصل الى شفير الهاوية.
لقد اهتمت البابوية على مدى تاريخها بلبنان، كونه مِنطَقة علم وحرية، تشع نورا على محيطها الذي عاش تقلبات اثّرت على حياته وتقدمه، وها هو اليوم يمر بتجاربَ امر بكثيرٍ من التي مر بها جيرانه. لقد عرفت البابوية قيمة لبنان كنطاق تفاعل بين الشرق والغرب، فأولته اهتماما عاليا، وتعاملت معه على انه قيمة إنسانية عليا، لدرجة ان قداسة البابا يوحنا بولس الثاني قد اعتبره رسالة، وهذا ما كرره في زيارته الحالية قداسة البابا لاون الرابع عشر.
ان تشمل اولُ زيارةٍ يقوم بها الحبر الأعظم لبنان، فإن ذلك انما يؤشر الى مستوى عال من القلق على هذا الوطن الجوهرة، التي تضافرت قوى الشرِ على تدميره، بما في ذلك بعضٌ من ابنائه. لقد اتى قداسته على عجل، وكانت زيارته ذات اليومين مكثفة النشاطات، وكأنه يقوم بمهمة طارئة قبل استحقاق ما، او قبل فوات أوان ما.
خلال "مهمته" المستعجَلة، أرسل قداسته رسائلَ في كل الاتجاهات، وحول شتى الأمور التي يعتبرها مصيرية بالنسبة الى الشعب اللبناني، وذلك في موقف تعاطف لا محدود، حيث عبر للبنانيين انه يحِمل في قلبه آلامهم وآمالهم.
ويشير قداستُه إلى أن "الشكر لا يجد دائما مكانا في نفوسنا، واننا نرزح أحيانا تحت ثقل تعب الحياة، ونقلق بسبب المشاكل التي تحيط بنا، وتثقلنا أوضاعٌ كثيرةٌ صعبةٌ، فنميل إلى الاستسلام والتشكي وننسى اندهاش القلب والشكر"، وكأني به يطلب من اللبنانيين الا يقلقوا لان الرب يرعاهم، وانه بالشكر تدوم النعم، مهما صغرت ومهما شابها من شائبات.
مقابلَ ذلك، وفي وقفة امام مرفأ بيروت، يخاطب قداستَه اللبنانيين قائلا ان جمال لبنان، وطن الأرز، "تغشاه مشاكلُ كثيرة تعانون منها، وسياقٌ سياسيٌ غير مستقر، غالبًا، وأزمةً اقتصاديةً خانقةً ترزحون تحت عبئها، وعنفٌ وصراعاتٌ أعادت إحياء مخاوف قديمة. وفي مشهد كهذا، يسهُلُ أن يترك الشكر المكان لخيبة الأمل، ولا يجد نشيد الحمد مكانًا"، وكأني به يؤكد لهم انه يتفهم حالة الإحباط التي يعيشونها، كما يتفهم ان "يَجُف ينبوعُ الرجاءِ بسبب الشك والارتباك". ولكنه يستدرك قائلا ان "كلمة الله تدعونا إلى أن نرى الأنوار الصغيرة المضيئة في وسط ليل حالك".
وفي موقف مرتكز على قول السيد المتجسد "تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا"، نجد الحبر الأعظم يشد ازر اللبنانيين قائلا لهم "علينا أن نقول اليوم مثل يسوع: "نحمَدُكَ يا أَبَتِ!" ونشكرك لأنك معنا ولا تدعَنا نضعف". ولكنه، وبشكل مواز، يُشير الى انه "ينبغي لهذا الشكر ألّا يبقى عزاءً داخلياً ووهمًا، بل يجب أن يقودَنا إلى تحوّل في القلب، وإلى توبة في الحياة".
وفي موقف متقدم امام الشر المستشري في العالم، يدعو الحبر الأعظم اللبنانيين جميعا الى تنمية هذه البراعم، وألّا يصابوا بالإحباط، وألّا يرضخوا "لمنطق العنف ولا لعبادة صَنم المال"، وألّا يستسلموا "أمام الشر الذي ينتشر".
اما في موقف آخر أكثر تقدما، يضع قداسته اللبنانيين امام مسؤولياتهم، حيث يشير اليهم الى انه "يجب أن يقوم كل واحد بدوره، وعلينا جميعا أن نوحّد جهودنا كي تستعيد هذه الأرض بهاءها" في إشارة الى معرفته العميقة بلبنان والى الدور الحضاري "البهي" الذي اضطلع به لقرون خلت. اما السبيل الى ذلك فهو واحد كما يشير قداستُه، يتلخص في ان "نجرد قلوبَنا من السلاح، ونُسقط دروع انغلاقاتنا العرقية والسياسية، ونفتح انتماءاتنا الدينية على اللقاءات المتبادلة، ونُوقظ في داخلنا حُلْم لبنان الموحّد، حيث ينتصر السلام والعدل، ويمكن للجميع فيه أن يعترف بعضهم ببعض إخوة وأخوات".
هنا تبرز عناصر المهمة الاساس الي يوكلُها قداستُه الى اللبنانيين، وكأنه تكليف شرعي، او ارشاد رسولي، حيث يقول لهم بصريح العبارة "هذا هو الحلْم الموكول إليكم، وهذا ما يضعه إله السلام بين أيديكم: يا لبنان، قُم وانهض! كُن بيتًا للعدل والأخوّة! كُن نُبوءة سلام لكل المشرق!" كم هي عظيمة مكانة لبنان في قلب قداستِه، وكم هو عظيم الامل الذي يضعه في اللبنانيين، حيث يحمّلهم مهمة نبوية تطال قيما إنسانية أساسية وخطيرة لمستقبل البشرية. ان قول قداستَه هذا تأكيد على دور لبنان الرسالة.
ولكن الحبر الأعظم يعي تماما ان لبنان هو جزء من منطقة مازالت تغلي منذ مئات السنين، هي المشرق الانطاكي والشرق الأوسط، فيلتمس من الرب "عطية السلام لهذه الأرض الحبيبة المتسمةَ بعدم الاستقرار والحروب والألم".
وفي نفس السياق يتوجه قداستُه الى مسيحيي المشرق مخاطبا إياهم قائلا "يا مسيحيي المشرق الأعزاء إذ تأخرَت نتائج جهودكم من أجل السلام، أدعوكم إلى أن ترفعوا نظركم إلى الرب الآتي! لننظر إليه برجاء وشجاعة" ويحمّلهم نفس المسؤوليةِ التي حمّلها للبنانيين، اذ يطلب منهم ان يكونوا "فاعلي سلام ومبشّري سلام وشهودَ سلام!"
وانطلاقا من معرفته العميقة لازمات المِنطقة، يشير الأب الأقدس "إلى أن الشرق الأوسط يحتاج إلى مواقف جديدة لرفض منطق الانتقام والعنف، ولتجاوز الانقسامات السياسية والاجتماعية والدينية، ولفتح صفحات جديدة باسم المصالحة والسلام" ويختتم مخاطبته شعوبِنا قائلا لهم "أصغوا إلى صراخ شعوبكم التي تطلب السلام!"
وفي كلمته الوداعية اكد قداسته للبنانيين "إنه وبينما كان مجيئه إلى هذا البلد يعني الدخول برقة إلى ثقافتكم، فإن الرحيل يعني حملكم في قلبي، وأكد بالتالي أننا لا نودع أحدنا الآخر، بل نسير إلى الأمام معا بعد أن التقينا". هو لا يقول لنا الوداع، بل الى لقاء قريب حيث أكد للبنانيين انهم وبلادَهم قد استودعهم قلبه، وان المستقبل لواعد، وان ازمنة أفضل سوف تأتي علينا.
وفي لفتة الى المناطق التي لم يزرها في لبنان، وجه قداستَه تحية اليها، مسميا بالاسم "على سبيل المثال طرابلس والبقاع، الشمال، والجنوب الذي يعيش حاليا حالة من النزاع وعدم اليقين".
وعند ختام الزيارة، عاد قداسته فأكد على أهمية التفاعل البنّاء قائلا "فبينما الأسلحة هي قاتلة، فإن التفاوض والوساطة والحوار هي بناءة"، مشددا مرة أخرى على ان لبنان "هو أكثر من مجرد بلد، إنه رسالة"، وسائلا الله ان يبارك لبنان والشعب اللبناني والشرق الأوسط والبشريةُ كلُها.
لقد قام قداسة البابا لاون الرابع عشر بواجبه، وزار لبنان، وخاطب شعبه، واشاع جوا من الالفة والمحبة بين أبنائه، واكد لهم ان السبيل لمستقبل أفضل يكمن في الحوار، والتفاعل، ونبذ العنف، والابتعاد عن خطاب الكراهية والتمييز، والعملُ يدا بيد في بناء وطن مستعيد البهاء والدور والتأثير. فهل التقط اللبنانيون الرسالة وهل سيعملون بموجبها؟
المسؤولية تقع الآن على عاتق اللبنانيين، جميع اللبنانيين، قياداتٍ وافراد، ان يبنوا على هذا الجو الإيجابي الذي اشاعته زيارة الخبر الاعظم مقتضاه. عليهم ان يعتبروا ان زيارة قداستَه، وخطابه الى اللبنانيين، جميع اللبنانيين، دون تمييز، هو لبنةٌ إضافيةٌ عليهم وضعها في سياق بناء حياة أفضل لهم.
إشاعة هذا الجو الإيجابي هي فرصة لكي يعي اللبنانيون أكثر أهمية وضرورة وحدتهم، ويسيروا قدما في حوار وطني، سياسي، اجتماعي، اقتصادي، واضح التطلعات، إيجابي الأهداف.
هم، اذا وعوا أهمية المرحلة وخطورتها، وعرفوا كيف يتوجهون، سوف يشكلون قدوة للكثير من شعوب المنطقة التي تعاني من نفس المآزق، وسوف يرسون نموذجا للخروج منها.
عسى الا تكون زيارة الاب الاقدس فرصة أخرى ضائعة عند اللبنانيين وشعوب المشرق الانطاكي.