الموعظة على الجبل – القسم الاول
قراءة علم-اجتماعية وسلوكية في القسم الأول من الموعظة
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
هذه قراءة للموعظة على الجبل من منطلق علوم السلوك، واهمها علم الاجتماع الذي يدين بالكثير من القيم التي يكتنزها الى تعاليم السيد التي هدفت الى تحسين السلوك الإنساني والسير به في طريق الكمال.
سوف تلي هذه القراءة ثلاث قراءات، على أساس تقسيم نص الموعظة الى اربعة اقسام حسب تجانس المواضيع التي تطرق اليها السيد في عظته الدهرية هذه.
يومها، صعد السيد الى الجبل، ورأى الجموع محتشدة، فتقدم اليه تلاميذه. عندها، تلى على مسامع الناس، ذات النفوس الظمئ والمتشوقة الى الاستماع اليه، تعاليمه.
لقد بدأ السيد موعظته بالتطويبات المرتبطة بالعناصر الأساسية التي تشكل المحبة، أي الرحمة بالمعنى المسيحي، وليس الشفقة كما يظنها البعض.
التطويبات طالت المساكين بالروح، اذ اعتبر ان لهم ملكوت السماوات، وطالت الحزانى، اذ انهم يتعزون، والودعاء، لأنهم يرثون الارض. نعم لقد اعتبر السيد ان الودعاء هم الذين يرثون الأرض، وليس العتاة ولا الفاتحين ولا الغزاة، هو الذي غلب العالم بالمحبة.
التطويبات طالت أيضا الجياع والعطاش الى البر، لأنهم يُشبعون، وهم يُشبعون لأنهم طلبوا البر، والبر متاح لكل من يريد السير به، كما طالت التطويبات الرحماء، لانهم يرحمون، وطالت أيضا انقياء القلب، وقال السيد انهم يعاينون اللّه.
كما طالت التطويبات ايضا صانعي السلام، فهم ابناء اللّه يدعون، لان اللّه سلام ومحبة، والطوبى قبل الختامية طالت المطرودين من اجل البر، فهم قد أصبحوا في ملكوت السماوات.
اما ختام التطويبات فهي لمن عيّروهم الكاذبون وطردوهم وقالوا عليهم كل كلمة شريرة من اجله. على هؤلاء ان يفرحوا ويتهللوا لان مقامهم عظيم في السماوات. وهنا يذكر السيد انه هكذا جرى طرد الانبياء الذين سبقوا، لأنه لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ، كما ورد على لسانه.
بعد هذا التحميل الأول لوديعة الايمان والمحبة والسلوك الحسن، يورد السيد الوديعتان اللتان تحمّلان المسيحيين مسؤولية صلاح الجنس البشري.
الوديعة الأولى هي ان المسيحيين هم ملح الأرض، وعليهم ان يحافظوا على ايمانهم وقيمهم، لأنه "ان فسد الملح فبماذا يملح. لا يصلح بعد لشيء الا لان يطرح خارجا ويداس من الناس". هنا يحمل المسيح اتباعه مهمة انقاذ الإنسانية عبر، أولا عدم فسادهم، وثانيا عبر منع حصول الفساد او استشراءه، عبر الحفاظ على الايمان والقيم الاجتماعية السوية والسير بهم.
اما الوديعة الثانية فهي ان المسيحيين هم نور العالم. ولأنه لا يمكن ان تخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجا ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت، على المسيحيين ان يضئ نورهم هكذا قدام الناس لكي يروا اعمالهم الحسنة ويمجدوا اباهم الذي في السماوات. هكذا ينور اتباع المسيح، نور العالم، حياة الناس ويرشدونها الى البر.
عبر هاتين الوديعتين – الوصيتين، ملح الأرض ونور العالم، يحول السيد المسيحيين الى حراس الصلاح والقيم، والى قدوة وقيادة يسير على هداها بني البشر، وهذه مسؤوليات جلل يحملها السيد لمن دعوا مسيحيين لاحقا في انطاكية.
اما بالنسبة الى المنحى التغييري الذي كان دائم الوضوح في مقاربات السيد خلال مكوثه مع من اتى لخلاصهم، فقد قصد تطمينهم انه لا يتعرض لاستمرارية الناموس او الأنبياء، وانه لم يأتِ لينقض، بل ليكمّل، مؤكدا انه الى ان تزول السماء والارض لا يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. كما شدد ابن الانسان على ان من ينقض احدى هذه الوصايا الصغرى ويعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات. واما من يعمل ويعلّم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السماوات. مؤكدا انه ان لم يزد برهم على الكتبة والفريسيين فلن يدخلوا ملكوت السماوات.
اما في مسألة العلاقات بين البشر فيذهب السيد في موعظته ابعد بكثير مما قد ورد في الناموس قبله، فيقول لهم انكم سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل، وان من قتل يكون مستوجب الحكم، واما هو فيقول لهم "ان كل من يغضب على اخيه باطلا يكون مستوجب الحكم. ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم." في المسيحية لا يحتاج الانسان الى الذهاب الى اقصى حدود العنف، أي القتل، لكي يعاقب، بل تجري ملامته عندما يتوجه الى أخيه الانسان بكلمات نابية او جارحة، الامر الذي يعتبر بمثابة جريمة روحية او معنوية. وهذا ما الهم الكاتب والشاعر والرسام جبران خليل جبران ان يقول في قصيدته "المواكب" فقاتل الجسم مقتول بفعلته، وقاتل الروح لا تدري به البشر.
لا بل يذهب السيد ابعد من ذلك، اذ يعتبر ان الرب لن يقبل قربان من هو على خصام مع أخيه حيث يرد على لسانه "فان قدمت قربانك الى المذبح وهناك تذكرت ان لأخيك شيئا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب اولا اصطلح مع اخيك. وحينئذ تعال وقدم قربانك." يعني ذلك، وبكل بساطة، ان السيد يعطي للعلاقة مع الآخر نفس أهمية العلاقة مع الرب، لا بل يجعل المصالحة مع الآخر شرط المصالحة مع الرب، اذ يفرض على الانسان تعليق صلاته من اجل التصالح مع قريبه، والا فان صلاته باطلة. لقد أولى السيد العلاقة مع بعضنا البعض نفس أهمية علاقتنا مع الخالق.
في هذه المرحلة المتقدمة من الموعظة من الناحية السلوكية، يعتبر السيد ان النية الجرمية هي بمثابة جرم حيث يؤكد للناس انه "قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تزن. واما انا فأقول لكم ان كل من ينظر الى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه." لهذه الدرجة شدد السيد على الانسان ان يضبط سلوكه حتى على مستوى التفكير. يمكن ان تزني بالجسد، كما يمكن ان تزني بالقلب، اي بسوء النية. كما اعتبر السيد ان لجم الغرائز امر على كل انسان ممارسته على نفسه من اجل ان تستقيم الحياة الاجتماعية.
وفي هاجس السيد ان يمنع الجزء الفاسد في أي كيان ان يهلك الكل، يطرح موقفا متقدما لا لبس فيه حيث يقول "فان كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنه خير لك ان يهلك أحد اعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم. وان كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك." يقول السيد ذلك لأنه يعتبر انه خير للإنسان، كما للمجتمع، ان يهلك أحد اعضائه ولا يلقى كله في جهنم، وهذا موقف متقدم بالنسبة الى التضحية بالفاسد من اجل خلاص وفلاح المجتمع، وهذه قاعدة التجدد والتقدم المجتمعيين. التقدم ليس واردا بوجود الفساد.
هذه محاولة أولى لقراءة كنوز كلام السيد في موعظته امام جموع الجبل، وهي تبين رهافة الاحاسيس التي تضمنتها هذه الكلمات السامية التي فعلت فعلها في السلوك الإنساني وما زالت.
وللأمر صلة.