في الفساد والبنيان الاجتماعي والايمان
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
اسمه الفساد،
بدايته كانت مع بداية الجنس البشري، حيث سُجل وجوده منذ أولى لحظات التاريخ الجلي،
يسكن في خفايا عقول ونفوس البشر، يحسن التخفي، ويظهر عند اللزوم، عند ضرورات ان تمارس الانا الطاغية صلاحياتها،
ينتشر في المجتمع، يتلطى بين الناس، خصوصا ان هناك من تعلم كيف يسوق نفسه كملاك او قديس،
يحسن الكثيرون تخبئة الفساد، ويعطون للعامة انطباعات كاذبة من الصعب دحضها،
الفاسد، الكاذب، الغشاش، الخائن، كلها مفاهيم او مصطلحات تابعة لنفس الحقل الدلالي الذي يتمحور حول الفساد،
مجلبة عار هو الفساد، ومشتقاته مجلبة مذمة، لذلك يحسن من انتمى اليه اخفاءه، علما ان هناك من امتهنوه من دون خجل ولا ورع، يفخرون به، ويطلقون عليه شتى الاوصاف التجميلية المنمقة،
منهم من يستعمل كلمة شطارة، والغير يستعمل تعبير حنكة، وآخرون يعتمدون مفهوم تدبير الحال،
ولكنهم جميعا يسوغون لقيمة دنيا مخيفة هي الفساد، حجر زاوية الخيانة،
الفاسد، الخائن، الغشاش، مخلوق يبيع شرفه وكرامته واسرته وتاريخه وابناءه وكل ما هو مرتبط به، من اجل الوصول الى غايته،
الفاسد او الخائن انسان لا يعرف العار، لأنه لا يعرف الشرف،
الفاسد انتهازي رخيص، والغشاش وصولي ساقط، والخائن أسوأ من كليهما، علما ان التصرف الواحد يقود الى الآخر،
كل الناس تريد الحصول على مراتب اجتماعية عليا، وتتوق الى حياة افضل،
كلنا يعيش الحراك الاجتماعي العامودي، ويسعى للانتقال من طبقة الى اعلى في سلم الترقي الاجتماعي،
ولكن الغاية لا تبرر الوسيلة، والاساليب غير المشرفة لا تشرف الهدف مهما كان عظيماً،
من الضروري ان تتعلم، وان تكافح، وان تجهد لكي تصل، ولكن لا يجب ان تكون اهدافك ملطخة بالدماء او الوحول،
لقد اتحفنا زملاؤنا علماء الاجتماع في فرنسا ان اجترحوا مفهوم "الشطارة اللبنانية" (la chatâra libanaise)، ولكن هذا المفهوم كان يحمل الكثير من المكونات غير المشرفة،
قد تكون الشطارة اللبنانية او الطريقة اللبنانية (the Lebanese way) هي التي أوصلت البلاد الى ما هي عليه اليوم،
شطارة في السياسة، تنتج "اتفاق القاهرة" الذي يكون سبب تدمير البلاد،
شطارة في الاقتصاد، تنتج اقتصادا ريعيا هزيلا، يدمر القطاع الزراعي ويهمش القطاع الصناعي،
شطارة في العلاقات الإنسانية، تنتج مجتمعية مريضة متملقة رغم ظاهرها الظريف...
شطارة في كل شيء، وصولا الى تخلّع المجتمع وضياع الوطن.
يتقدم لبنان عالميا في سلم الفساد ليصبح من أكثر مجتمعات العالم فسادا، لان الفساد قد تدرج نزولا من النخب الاقتصادية والسياسية، الى الجزء الأكبر من الشعب، مما ضرب منظومة القيم ودفع بالناس الى فراغ قيمي. ولكن يمكننا ان نؤكد، والوقائع والإحصاءات تثبت ذلك، ان الفساد قد اضحى سمة عالمية، يتفاوت انتشارها بين مجتمع وآخر.
ولأننا مسيحيون، ملح الأرض، ننظر الى فساد العالم من خلال ايماننا وعقيدتنا، لا بد لنا ان نستلهم السيد المتجسد، الذي خلال مروره الأرضي قد قال كل شيء.
لقد ورد في موعظته على الجبل انه ذكّر المسيحيين بواجبهم في هذا المجال قائلا لهم " أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح؟ لا يصلح بعد لشيء، إلا ﻷن يطرح خارجا ويداس من الناس. أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجا ويضعون تحت المكيال، بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت. فليضيء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات."
ولان الفساد يستهدف أكثر ما يستهدف المال، شدد المتجسد الدهري في كلامه ان "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا ألله والمال."
ولأنه يعلم ان طريق الاستقامة صعبة، اوعز الى المسيحيين ان "ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه! ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونه!"
ولعمق معرفته بالنفس البشرية، والنفاق الذي يمكن ان تتسلح به، ورد على لسانه انه "متى صلّيت فلا تكن كالمرائين. فانهم يحبون ان يصلّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس. الحق اقول لكم انهم قد استوفوا اجرهم. واما انت فمتى صلّيت فادخل الى مخدعك واغلق بابك وصلّ الى ابيك الذي في الخفاء. فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية. وحينما تصلّون لا تكرروا الكلام باطلا كالامم. فانهم يظنون انه بكثرة كلامهم يستجاب لهم. فلا تتشبهوا بهم. لان اباكم يعلم ما تحتاجون اليه قبل ان تسألوه".
أيها الرب الفادي، انت الذي بذلت دماؤك من اجل الجنس البشري الذي ما زال متماديا في عقوقه، ابسط يمينك على هذا العالم الفاسد، الصاخب في فساده، والمتمادي في خياناته، هذا الجنس البشري الذي لم يتورع عن افساد العقول والقيم والطبيعة والعلاقات بين الناس، وهز ضمائر من تمادوا في غيهم لعلهم يرعوون.
نحن ما زلنا على وصيتك، ملح الأرض ونور العالم، نحاول بما اوتينا من عزم ان نمنع الضرر عن بني البشر، برا بتعاليمك، لذلك نحارب في كل مكان، ولكن ثق أيها السيد، انك ما زلت غالبا للعالم بمحبتك التي لا تنضب وبتعاليمك التي تبقى دستور حياة ابد الدهر.