الشهر المريمي، مساحة دينية مشتركة
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
ينتظر المؤمنون بفرح حلول الشهر المريمي في أيار/مايو من كل عام، حيث يؤم المصلون الكنائس ويردون الى المزارات وتقام الصلوات في البيوت بشكل دوري، عندما يحضر شخص السيدة العذراء الى البيت المعني، الذي يحتشد فيه سكان الحي او القرية، من اجل الابتهال الى السيدة العذراء وانشاد أجمل ما كتب من الصلوات، على اسم مريم العذراء خصيصا.
لقد كانت والدتي رحمها اللّه، وهي من الناشطات في الكنيسة المارونية، تشدد على تسمية "شخص العذراء" وليس تمثالها، لان الشخص هو الرمز، والغاية منه تركيز التفكير حول صورة او هوية مريم، اما كلمة تمثال فهي عودة الى الوثنية. لذلك كنا كلما استعملنا كلمة تمثال العذراء، عدنا واعتذرنا منها وصححنا كلامنا.
في لبنان، والشرق الأوسط عامة، تكثر الكنائس على اسم السيدة العذراء، ويأتيها المؤمنون من كل الطوائف، من كل حدب وصوب للصلاة لها، والتبرك منها، وايداعها همومهم وهواجسهم وآمالهم.
انها مريم والدة الاله، وكل ام من امهاتنا هي مريم، لأنها قد ولدت من هو على صورة الاله ومثاله.
رمزية مريم لا جدل حولها، في المسيحية والإسلام على حد سواء، اذ حصل على اجماع دهري تاريخي لا حدود له. من هنا حددنا في لبنان عيد البشارة على انه عيد وطني، يحتفل به اللبنانيون، على اختلاف انتماءاتهم، وقد اعتبرناه نحن، في مجلس كنائس الشرق الأوسط، مساحة دينية مشتركة من ضمن باقي المساحات الدينية، حيث يشترك جميع المؤمنين في قبوله والاحتفال به.
ان مشروع الحوار عبر برنامج المساحات الدينية المشتركة الذي أطلقه مجلس كنائس الشرق الاوسط السنة الماضية، ما زال قائما ونتوق الى توسيعه الى جميع دول المنطقة حيث وجدنا الكثير من الابعاد المشتركة دينيا-اجتماعيا بين أبناء دينين مضى على تفاعلهم أربعة عشر قرنا، تفاعل مبني على أمور مشتركة في الدين اساساً.
في نفس السياق، يستطيب اللبنانيون مرأى المؤمنين على مختلف انتماءاتهم الطائفية، يجوبون أماكن العبادة والمزارات التي هي على اسم السيدة العذراء.
ان زرت حريصا، جارة بكركي في جبل لبنان، او سيدة مغدوشة في جنوب لبنان، او دير سيدة النورية في شمال لبنان، او مزار السيدة في زحلة، او دير سيدة صيدنايا في الشام، او اية كنيسة أخرى، او أي مزار، يحملون اسم مريم العذراء، لوجدت ان عدد غير المسيحيين المتواجدين هناك، قد يساوي اذا لم يكن يفوق، عدد المسيحيين المتواجدين في هذا المكان.
ان دل هذا الامر على شيء، فانه يدل على ان الناس، عامة الناس، على عفويتهم وسليقتهم، هم غير طائفيون ويحترمون اديان بعضهم بعضا، ويعتنقون جزءا منها، جزئيا بالإيمان، وجزئيا عبر التفاعل الشعبي والتناضج الثقافي، الناتج عن الاشتراك في الحياة..
يشير هذا الامر أيضا الى ان الحوار بين أبناء الأديان، وتقريب الناس من بعضها البعض، وإزالة الحواجز بين الطوائف وبين اتباع المعتقدات المختلفة على أنواعها هي أمور ليست صعبة المنال في حال وجود المقومات الضرورية لها..
ان مجتمعات الغد شديدة التنوع، وتركيبتها شديدة التعقيد، بسبب الهجرات الدولية والاختلاط في العالم، واذا لم ننجح نحن، كمؤسسة، في ازكاء القدرات الحوارية، على مستوى الناشئة قبل كل شيء، فان المعمورة بأسرها هي مشروع حروب أهلية.
لذلك، بلورنا في المجلس مشروع حوار يطال مختلف مناطق لبنان، من اجل ترسيخ ثقافة الحوار، ووئد خطاب الكراهية والتمييز العنصري في مهدهم.
اننا نعي تماما ان لا حوار سوى حوار الحياة، وليس حوار اللجان الحوارية الجالسة وراء المكاتب والتي تخسر من مصداقيتها.
في هذا السياق، يمكننا اعتبار الشهر المريمي هو شهر حوار وتضامن اجتماعي ووحدة وطنية بامتياز، إضافة الى صفته الاصلية، الصلاة وتكريم السيدة العذراء، التي فضلها اللّه على نساء العالمين.