كلام قبل فوات الاوان

English

البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

من امام باب الهيكل الملوكي وقف بطريرك انطاكية، يوحنا العاشر الكلي الطوبى والمحبة والوقار، يخاطب المصير ويقول مقالا ارتجله لهذا المقام.

لم يستطع صاحب الغبطة ان يقرأ ما كتبه، لان الكلمة المكتوبة، على عظمتها، قد تأسر الروح وتلجم المشاعر، والموقف كان موقفا يستدعي العاطفة بقدر ما يستدعي العقل.

الموقف كان مهيبا. شهداء مسجون امام ايقونة السيد، ووالدة السيد، بطاركة احباء حضروا محبة وتضامنا، مؤمنون قدموا من كل انحاء الكيان، واهال مفجوعون واية فجيعة. كان موقفا يختصر جزءا من تاريخنا المأزوم، الذي لم يعرف الاستقرار منذ قرون.

وقف بطريرك المحبة والحكمة يخاطب شهداء ارتقوا يوم تذكار القديسين الانطاكيين، يستودعهم الرب حيث ذهبوا، طالبا منهم ان يصلوا لأجلنا، وهم قد سبقونا الى ديار الأبدية، حيث مملكة السيد الحقيقية، التي لم تكن يوما من هذا العالم.

  توجه صاحب الغبطة الى "أبنائنا المسيحيين في كل سوريا وفي كل مكان من العالم"، كما توجه “إلى كل سوري مسلماً كان أو مسيحياً"، لأنه اعتبر ان "ما حصل ليس حادثة فردية ولا تصرفاً فردياً وليس اعتداءً" مستهدفا شخصا او عائلة او فئة، بل "هو اعتداء على كل سوري وعلى كل سوريا".

منطلق البطريرك وطني بامتياز اذ يعتبر ان أبناء البلاد هم متساوون في الحقوق والواجبات، لا بل الأهم، انهم متساوون في المصير، لان المجزرة – نعم هي مجزرة - التي استهدفت مكونا أساسيا في البلاد قد استهدفت كل مكونات البلاد، لذلك اعتبر ان مهد المسيحية، سورية، برمتها معنية بها.

وخلال كلامه استذكر صاحب الغبطة التاريخ ليثبت ان البلاد قادرة على صيانة السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي، حيث ذكر ان ما حصل هو الأول من نوعه منذ احداث 1860، أي منذ أكثر من قرن ونصف من الزمن.

وفي نفس منطق صيانة السلم الأهلي، وهو هاجس أساسي عند غبطته، أكد ان المسيحيين هم فوق كل هذه الأحداث، ولن يجعلوا من هذه "الجريمة النكراء سبباً لإشعال فتنة وطنية أو طائفية"، مؤكدا الحفاظ على الوحدة الوطنية والتمسك بها، بالتكافل والتضامن مع جميع مكونات الوطن، على مختلف انتماءاتهم.

اما بالنسبة الى عمق الانتماء، فقد أكد غبطته ان المسيحيين "طيف أساسي مكوِن في هذا البلد" وانهم باقون صامدون حيث ولدوا وعاشوا في كنف الوطن المسمى مهد المسيحية، مذكرا ان

 خطف مطراني حلب بولس ويوحنا، وراهبات معلولا، لم يؤثروا على البقاء مؤكدا "ها نحن هنا دوماً. تمت الجريمة النكراء أول البارحة. وسنبقى موجودين".

وفي توجه صريح الى الدولة، المسؤولة عن الشعب، واقعه ومصيره، ذكّر صاحب الغبطة ان الناس في أوضاع حياتية مزرية، وان على الدولة ان تحقق الأهداف التي وعدت بها، الديمقراطية، الحرية، المساواة، والقانون، والامن والسلام، مشددا على رفض المسيحيين أن يتباكى عليهم أحد، وهم شهداء الدين والوطن وليسوا قتلى، ولا ان يعلَن الحداد عليهم لان الحكومة هي أولى بيوم الحداد، بسبب فشلها في حماية الناس على الصعيد القومي كما على الصعيد الحياتي.

في سياق مواز، يعود غبطته الى البعد الوطني، وهو الابقى، ليؤكد ان المسيحيين في سورية هم “مواطنون أصيلون" وان بلادهم هي ارضهم وكرامتهم، وهم ضنينون بالوحدة الوطنية ويتوقعون ان تمتد الايدي إليهم من اجل بناء "السورية" التي يحلم بها كل مواطن، مشددا على ان المسيحيين لا يخافون لان السيد قد غلب العالم. انهم يتابعون المسيرة، وهم حاضرون لحماية أهلهم المسلمين لو حصل الامر في المسجد.

لقد خاطب صاحب الغبطة جميع المعنيين بما حدث في ذلك الاحد الدموي في الكنيسة، وحمّل كل معني بالأمر الوديعة التي تعود اليه، وجمع في كلمته الايمان، والوحدة الوطنية، وبناء الدولة التي هي، في المحصلة، الضامن لكل ديناميات المجتمع التي تؤدي الى تقدمه وفلاحه.

لا بد لهذه الدولة الناشئة في الشام اليوم، والتي قد وعدت شعبها بالكثير، ان تأخذ بعين الاعتبار ما يقال لها عن حسن نية، كما كلام صاحب الغبطة وكل ذوي النيات الحسنة، والمعنيين بمستقبل الشعب، والذين يريدون له حياة أفضل. في هذا السياق، اسمح لنفسي ان الفت نظر المعنيين بالشأن العام في سورية، ان يحذروا الوقت الضائع في المراحل الانتقالية التي تكون عادة شديدة الصعوبة، كما هي حال الشام اليوم، لان إعادة التكوين للدولة امر شديد التعقيد ويحتاج الى الكثير من الخبرة والدراية القائمتين على العلم، وعسى الا يعبث المصطادون بالماء العكر باستقرار البلاد خلال هذا الوقت الضائع.

في نفس الوقت، على الدولة، وبكل ما اوتيت من قدرات، ان تحمي السلم الأهلي والتضامن الاجتماعي، الذين يشكلان أسس الاستقرار الذي من دونه لا نمو ولا تقدم. لقد عاش المشرق الانطاكي قرونا من الاجتياحات والاحتلالات والحروب والقلاقل، وتحول من مهد الحضارة الى موئل الاضطرابات، وقد آن له ان ينعم ببعض الاستقرار لكي يستطيع شعبه المبدع ان يساهم من جديد في بناء الحضارة العالمية.

Previous
Previous

فيديو - القديسان بطرس وبولس التقيا في لبنان

Next
Next

فيديو - ترنيمة قلب يسوع