كلمة البروفسور ميشال عبس، الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

خلال المؤتمر الصحفي الّذي عقده المجلس لإطلاق الفضائيّة والمحطّة الإذاعيّة الجديدتين والعائدتين له

لئلا يدركنا الظلام

في زمن المعرفة، القوة الحقيقية للإنسان، يشكل التواصل والاعلام الأداة الأساس لنشر هذه المعرفة وتعميمها على البشر، وتاليا مكافحة الجهل والظلامية الذين يقودان الى شتى الامراض الاجتماعية مثل التعصب، والتمييز العنصري، والاحكام المسبقة، وخطاب الكراهية.

في زمن المعرفة، التي تستفيد من التقدم في التكنولوجيا، وهي وراءه أصلا، ليس من المقبول ان لا يكون الناس، كل الناس، على اطلاع بشتى أمور الحياة، كل حسب اختصاصه او اهتمامه.

مسؤولية نشر المعرفة هي مسؤولية عليا، خطيرة، اذ يعتبر علم الاجتماع ان الاعلام اليوم يسبق الاهل والمدرسة والمؤسسات في تكوين وتعميم القيم على المجتمع، وتاليا، فان دوره في التنشئة الاجتماعية اضحى محوريا Value Shaping Force.

هنا تكمن خطورة التضليل الإعلامي الذي يعتبر جريمة تعاقب عليها قوانين العالم اشد العقاب، لان التلاعب بالعقول، وتشويه الحقائق، هي جرائم معرفية تضاهي الجرائم المتعارف عليها قانونيا.

من جهة أخرى، كباحث اجتماعي، قبل ان أكون مسؤولاً مسكونياً، اعتبر ان إخفاء المعرفة، عبر كتم المعلومات، يشكل جريمة ضمنية، وقد تكون فعلية في بعض الأحيان، إذا أدت الى اذية او ضرر. من هنا، فان مسؤولية نقل المعرفة وبثها، تعميما للفائدة، تشكل واجبا إنسانيا ووطنيا ودينيا.

كم من القرارات أتت ظالمة او ناقصة او في غير محلها بسبب نقص المعلومات؟

كم من هدر يحصل في حياة الانسان بسبب عدم اكتمال المعرفة حول مجال ما؟

في زمن الحداثة، تشكل وسائل الاعلام الوسيلة الأساسية لنقل المعرفة على الصعيد المجتمعي العام، وهي بذلك تكون بصدد المشاركة في تكوين الرأي العام – المضلَّل عامة – وتاليا بمساعدة المجتمع على القيام بخياراته الكبرى.

اما على الصعيد الديني، والدين مكوِّن أساس في المجتمع وفي نظام القيم، فقد أصبحت وسائل الاعلام هي الأداة الأساسية لنشر العقيدة والفكر الدينيين، إضافة الى دورها في تعريف الناس الى الثقافة والتقاليد الدينيتين.

لقد أصبحنا نشهد عمق وحجم البعد الديني على كافة مواقع الاعلام، اكانت الفضائيات، او الإذاعات، او مواقع الانترنت، او وسائل التواصل الاجتماعي. ولا بد لنا من لفت النظر الى أهمية الكتاب المسجل – الاوديو بوك – الذي يستعمل بشكل واسع كأداة ثقافة دينية يستمع اليه الناس خلال الرحلات الطويلة.

في المختصر، لقد احتل الاعلام الديني كل المجالات وأصبح قادراً ان يصل الى كل فج عميق في اصقاع الأرض.

منذ الجيل الأول، وعى الرسل أهمية التواصل والاعلام في المهمة التي كلفهم بها السيد المتجسد، أي تبشير الأمم من اجل تعميدهم باسم الاب والابن والروح القدس، فقامت المسيحية تاريخيا باستعمال وسائل التواصل من اجل نشر الرسالة الخلاصية، كما من اجل شد ازر الجماعة المؤمنة. أي انها اعتمدت تقنيات النشر للجماعات التي دعيت الى الايمان، واعتمدت تقنيات ديناميات الجماعة من اجل تنظيم المؤمنين وتماسكهم ضمن المجموعات التي ينتمون اليها. الخطابة، والحوار، والترنيم والانشاد والموسيقى، وغيرها من تقنيات التواصل، رافقت رحلة نشر رسالة السيد الخلاصية، وما زالت حتى اليوم.

اما اليوم، ومع توفر تقنيات التواصل الحديثة، التي تخطت حدود البلدان والثقافات، فإن آفاق إيصال الصوت أصبحت أوسع من السابق بكثير، والوتيرة اعلى من السابق بكثير، وحجم المواد المرسلة أكبر من السابق بكثير، وقد استفادت الكنيسة من هذا التوسع في الآفاق واستثمرت ذلك في عملها التربوي والتثقيفي.

مجلس كنائس الشرق الأوسط، وقبله، مجلس كنائس الشرق الأدنى، أي منذ الستينات، عرف تماما كيف يستثمر هذه الموارد التقنية في عمله المسيحي المشترك، أي المسكوني.

منذ البدايات، أولى المجلس مسألة التواصل أهمية قصوى، وكانت المكاتب او الدوائر المتعاملة بالإعلام مرافقة لكل مرحلة من مراحل تطوره المهني والإداري، وكان عدد العاملين في الاعلام وفيرين، وكانت المعدات المتوفرة كثيرة ومتقدمة. لقد شكل مركز انتاج المجلس، الذي كان مقره كلية اللاهوت للشرق الأدنى، موقعا متقدما للإنتاج السمعي-البصري طيلة الفترة من سبعينات الى تسعينات القرن الماضي، ولكن، للأسف، جرى اقفاله لأسباب لا مجال للخوض فيها الآن.

طيلة تلك الفترة، رافق العمل الإعلامي كل نشاطات المجلس، مما أنتج ارشيفا كبيرا، قامت تيلي-لوميار – نورسات، مشكورة، بنسخه على أقراص صلبة من اجل حفظه ووضعه في متناول المهتمين من مؤسسات وباحثين. لقد شكل، ما سمي استديو المجلس آنذاك، مركزا استقطاب للكثير من العاملين في مجال التواصل والاعلام. وبما ان الشيء بالشيء يذكر، فقد أنتج زميلنا، مشكورا، في دائرة التواصل شريطا وثائقيا عن هذا المركز الإعلامي المميز، الذي ضم لأكثر من عقدين من الزمن نخبة من العاملين في الإنتاج السمعي-البصري. الشريط الوثائقي متوفر لمن يهمه الامر، ونحن نطمح اليوم الى ان نصل الى نفس مستوى التجهيز والأداء، دون نسيان فارق الزمن طبعا.

ما نحن بصدده اليوم هو خطوة مستجدة من مسارات جديدة، لا بد من التوقف عند مختلف مراحلها، اذ قد ترافقت عدة مسارات بشكل متواز وبصمات تيلي-لوميار – نورسات جلية في كل اطوارها:

المسار الأول كان تجهيز مكاتب المجلس هنا في رأس بيروت بالمعدات اللازمة من اجل انشاء مركزا للإنتاج السمعي-البصري. ترافق معه، وبني عليه، انشاء منبر الكلمة الذي منه تنطلق كل النشاطات الفكرية والثقافية.

المسار الموازي كان تحويل تراث المجلس الإعلامي الى مادة رقمية يمكن قراءتها وتوليفها او تجديدها، كما ذكرنا أعلاه. ترافق ذلك مع تزويد المجلس بمواد إعلامية من محفوظات تيلي-لوميار – نورسات.

المسار الثاني، والذي نحن بصدده اليوم، هو استضافة تيلي-لوميير – نورسات على اثير موجات بث فضائي واذاعي لفترات محددة خلال اليوم تزداد تباعا حسب الإنتاج وتوفر المواد. ونحن اليوم في صدد إطلاق هذا المسار الثاني.

يترافق ذلك مع تدريب مستدام للموارد الإنسانية العاملة في هذا المجال، إضافة الى التدريبات المهنية العامة التي تجري في المجلس.

هذا البث الفضائي والاذاعي الذي أردنا اطلاقة يوم العنصرة، والعنصرة هي رمز قد اعتمدناه للعيد الخمسين لتأسيس المجلس في السنة الماضية، هو ما نحن بصدده اليوم.

ان التقنيين المعنيين من كلتا المؤسستين يعملون بشكل دؤوب من اجل ان يبدا البث في القريب العاجل، وان يوصل ما نريد ايصاله الى من له اذنان سامعتان، وعينان شاخصتان، وروح وعقل يبحثون عن الحق الذي يحررنا.

سوف تكون هذه الفضائية الصوت الداوي للهموم المسيحية والمجتمعية المشتركة، وسوف تهتم بإيصال القول الحسن والكلمة الطيبة الى نفوس تتوق الى ذلك. كما سيشرف على برامجها لجنة يترأسها الاب الدكتور رفعت بدر، مندوب اللجنة التنفيذية لشؤون التواصل والاعلام، وتشمل خبراء من الكنائس الأعضاء يمثلون عائلات المجلس الكنسية الأربعة، بالتنسيق مع الأمين العام، كما سائر لجان المجلس.

ان نشر المعرفة وتعميم أنماط التفكير والسلوك الحسنة على المجتمع هي من المهام الاولية للكنيسة، لان المعرفة هي النور الذي اوصانا السيد ان نسير به ما دام لنا، فنسير به لئلا يدركنا الظلام، لان الذي يسير في الظلام لا يدري الى اين يذهب. ان المعرفة نور وحق.

كما انه لا يمكن وضع الايمان-السراج في خفية ولا تحت المكيال، بل علينا ان نحرص على وضعه على المنارة لكي ينير كل من في الدار.

الا وفقنا الرب ان نبر بوصاياه

Previous
Previous

فيديو - تابعوا فضائيّة مجلس كنائس الشرق الأوسط على التردد التالي

Next
Next

كلمة الأب رفعت بدر، مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام، ناشر موقع أبونا، ومندوب اللّجنة التنفيذيّة لشؤون الاعلام في مجلس كنائس الشرق الأوسط