انطاكية والزمن الصعب

English

البروفسور ميشال عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

على الأمم الحية تمر ازمنة صعبة مزدحمة بالمحن والأزمات، تدخلها في مآزق، او ترمي بها في منحدرات، فيصبح المصير محفوفا بالكوارث، وتعم الريبة، ويستشري الخوف من المستقبل، ويصبح الأفق مظلماً.

في زمننا العصيب هذا، التئمت انطاكية تحت راية راعيها، ثالثَ عشرَ الرسل القديسين الاطهار، يوحنا العاشر، بطريرك المحبة والحكمة، من اجل استكشاف المستقبل، سبر اغوار الزمن الصعب، وإيجاد حلول لمعضلات لا يمكن ان تعصى على ذوي الايمان، والإرادة، والمعرفة.

الى احبار الكنيسة، جمع البطريرك بعضاً من نخبها، من سياسيين ومثقفين وناشطين اجتماعيين وخبراء في شتى الحقول، من اجل مشاركتهم زمن القلق ومهمة البحث عن المصير الأفضل.

لقد رسم غبطة البطريرك يوحنا العاشر بحزم حدود كرامة الناس، عبر خطبته الشهيرة في وداع من ارتقوا شهداء في كنيسة مار الياس في الدويلعة، جارة دمشق، وقال للقاصي والداني نحن هنا، هذا ايماننا، هذه ارضنا، وهذا تاريخنا، وها هو مستقبلنا نخطه بيدينا.

المداخلات توالت، تلتها المناقشات، وابتُدعت الأفكار تضيء سماء الحوار، مثل شرارات البرق، وظهرت ارهاصات لتوجهات، تتحدى الزمن الآتي، وتقول له نحن لها، الغد لنا، ووجودنا له المكانة التي تليق به تحت الشمس.

أتوا كثر، بناء على دعوة من صاحب الغبطة، تلقفوها بشوق ومحبة، وهم يرصدون مساره، ويلتقطون موجات فكره، ويشاركونه تطلعاته، لأنها تطلعاتُهم التي احتضنها بأمانة، وعبّر عنها بشجاعة عز نظيرها، في مرحلة مروعة من تحولات خطيرة.

هو يعرف كيف يقف مواقف العز، عند لزومها، ويعرف كيف يمارس المرونة، عند لزومها. هي الحكمة المعروفة عنه، مقرونة بالشجاعة التي يتحلى بها.

كل ذلك قد عبّر عنه عند ختام كل جلسة من جلسات الندوة التي اعتُبرت منحى مستجد في اجتماعات المجمع المقدس، الذي شهد سابقا اشتراك نخب من الكنيسة، ولكن ليس بهذه المنهجية ولا بهذا الحجم.

للأزمنة العصيبة قراراتها الصعبة!

خلال هذا المجمع المقدس، وعبر حلقات النقاش التي تخللته، خاطبت انطاكية، بلسان راعيها الكلي الوقار، كافة أبناء مجتمعنا، وسمّت كل آفاته، ورسمت لها العلاجات الناجعة، واعطت الناس جرعة من شجاعة وامل.

ان انطاكية هي ليست فقط للمسيحيين، بل هي لجميع من هو في المشرق الانطاكي، الذي ما فتئ يئن من الحصار والقتل والدمار منذ قرون.

عاصمة المشرق الانطاكي، حيث دعينا مسيحيين أولا، هي للمسكونة برمتها، لان عبرها انطلقت الرسالة لتعم جميع ارجاء المعمورة.

مسيحيتنا ليست فقط للمسيحيين، بل لجميع اهل الأرض، لان المسيح قد تجسد لأجلهم، ولان السامري الصالح لم يسأل الجريح الذي اغاثه، لا عن اسمه ولا عن هويته.

مسيحيتنا ليست موجهة ضد الغير، بل مع الغير ومن اجل الغير، فهي أساس الايثار الذي بفضله يجري اسعاف البشرية، ويمارس الاحسان.

مسيحيتنا المستقيمة الرأي، مشروع وحدة في الحياة، ضمن بوتقة الحياة الاجتماعية التي نتفاعل فيها جميعا.

ملح الأرض لا يمكنه الا ان يُطيّب ويحفظ، وهذه وصية السيد التي تستلهمها انطاكية وسيدُها.

يتابع المجمع المقدس اعماله، في شراكة مع غير المسيحيين، وفي سابقة جريئة تشير الى فكر نير وعقل منفتح. اليست هكذا هي مسيحيتنا، ومشرقيتنا الانطاكية، واستقامة رأينا؟

تشكل وحدة المجتمع، ويشكل السلم الأهلي، الناتجين عن اشتراك سليم في الحياة، هاجسا أساسيا عند غبطة ثالث عشر الرسل القديسين الاطهار، لان الاستقرار هو أساس التقدم، ولان التماسك الاجتماعي هو الرد المباشر على ما يحاك علينا من مؤامرات، واخطرها مؤامرات الوجود والعدد والمصير.

يتابع المجمع المقدس اعماله، ويتهيأ لاتخاذ قرارات جريئة، تطال شتى نواحي حياتنا، في محاولة من انطاكية، عبر راعيها المبارك والملهم، لمنع الصدع ان يتعاظم، والاهتراء ان يستفحل في مجتمعنا.

ما بعد هذا المجمع المقدس ليس كما قبلَه، لذلك نقول، نحن أبناء المشرق الانطاكي، الانطاكيون، حفظ الله الراعي المحب الذي افتتحه بصلاته، والذي سوف يختتمه ببركته.

والى سنين عديدة يا سيد! 

Previous
Previous

فيديو - 13 تشرين الأوّل/ أكتوبر: القديسون الشهداء كربس وبابيلس وأغثوذورس وأغاثونيكا (251م)

Next
Next

وفد من الكنيسة السويديّة يزور مجلس كنائس الشرق الأوسط في بيروت