قداسة البابا لاون الرابع عشر في نيقية: لنتغلب على عثرة الانقسامات ولنغذي الوحدة
قداسة البابا لاون الرابع عشر في نيقية: لنتغلب على عثرة الانقسامات ولنغذي الوحدة (@Vatican Media)
كان يوماً تاريخياً مشهوداً، تكلل بالروحانية العميقة والوحدة المرجوة، وذلك عندما توافد رؤساء الكنائس والممثلون عن مختلف الجماعات المسيحية من أصقاع المعمورة إلى مدينة إزنيق التركية، التي كانت تُعرف قديماً باسم نيقية، لإحياء الذكرى السنوية الألف وسبعمائة لحدث محوري غيّر مجرى التاريخ المسيحي
بدأت مراسم اللقاء المسكوني المهيب عند أنقاض القصر الإمبراطوري والكنيسة الأثرية للقديس نيوفيتوس، في موقع يحمل ثقلاً تاريخياً وروحياً لا يُقدّر بثمن. سار القادة في موكب دخول مهيب، تتناوب فيه تراتيل جوقة الكنيسة الأرثوذكسية بلحنها اليوناني الأصيل مع تراتيل جوقة الكنيسة الكاثوليكية بلحنها اللاتيني، في إشارة رمزية بليغة إلى التناغم والتآخي بين التقليدين العظيمين، وكأن صوت الكنيسة الواحدة يصدح مجدداً من مهدها. عند الوصول إلى المنصة، قام كل من قداسة البابا لاون الرابع عشر وقداسة البطريرك المسكوني برثلماوس، برفقة رؤساء الكنائس وممثلي الجماعات الكنسية ، بإضاءة الشموع، ليرمز ذلك إلى نور المسيح الذي لا يخبو، والذي جمعهم مجدداً في هذا المكان المبارك، تأكيداً على التزامهم المشترك بالإيمان الأبدي.
افتتح غبطة البطريرك المسكوني برثولماوس اللقاء بكلمة ترحيبية مؤثرة وعميقة، استهلها بالقول الملهم من المزمور: "هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعًا!"، معبّراً عن تأثره العميق وشكره لجميع القادة الذين استجابوا لدعوته، ليشاركوا في هذا الحج المشترك تكريماً لذكرى وإرث المجمع الأول. وأكد غبطته أن الحضور ليس هنا للتفكر في الماضي أو التاريخ فقط، بل لتقديم "شهادة حيّة للإيمان ذاته الذي عبّر عنه آباء نيقية"، مشيراً إلى أنهم يعودون إلى هذا المنبع الصافي للإيمان المسيحي "للمضي قدماً" في مسيرة الوحدة. وشدد البطريرك برثولماوس على أن قوة هذا التجمع والسر الكامن وراء دوام نيقية هو الشهادة الموحدة بأن يسوع المسيح هو "إله حق من إله حق، ومساوٍ للآب في الجوهر"، وهي الكلمة اليونانية التي رسّختها العقيدة، والتي تشكل جوهر قانون الإيمان الذي يردده المسيحيون في كل مكان وزمان. ثم انتقل البطريرك للحديث عن معنى اسم نيقية، المشتق من كلمة "الانتصار " (Nikē)، موضحاً أن انتصار المسيحيين ليس انتصاراً دنيوياً بالقوة أو السيطرة، بل هو انتصار روحي أسمى، تتجلى علامته في "صليب المسيح الذي لا يُقهر"، الذي هو بالنسبة للأمم "حماقة"، ولكنه للمؤمنين "تعبير سامٍ عن حكمة الله وقوته"، مؤكداً أن الانتصار الذي نحتفل به هو انتصار إيماننا الذي غلب العالم. وناشد قداسته الجميع بأن يسعوا نحو "كمال الوحدة" بحرارة إيمان نيقية، مُختتماً كلمته بالدعوة إلى المحبة المتبادلة حتى يتسنى للجميع الاعتراف بإله واحد في الروح: الآب والابن والروح القدس، الثالوث المتساوي في الجوهر وغير المنقسم.
بعد كلمة الترحيب هذه، القى قداسة البابا لاون الرابع عشر كلمة رحب بها بالحضور وقال: في حقبة من التاريخ التي تتسم بعلامات مأساوية، حيث يتعرض الإنسان، المخلوق على صورة الله ومثاله، لتهديدات لا تُحصى تمس كرامته وحقه في العيش بسلام. إن احتفالنا بذكرى مرور 1700 على انعقاد المجمع المسكوني الأول لنيقية هو فرصة ثمينة وحاسمة لكي نسأل أنفسنا من هو يسوع المسيح في حياة رجال ونساء اليوم؟ من هو يسوع المسيح بالنسبة لكل واحد منا شخصياً
تابع الأب الأقدس يقول هذا السؤال يحمل أهمية بالنسبة للمسيحين، الذين يخاطرون باختزال شخص يسوع المسيح الى نوع من القائد مواهبي أو بطل اسطوري خارق للطبيعة، وهو تزييف لحقيقة تقود في النهاية إلى الحزن والارتباك الروحي. لقد كان جوهر هرطقة آريوس قديماً هو إنكار لاهوت المسيح الكامل، مما أدى به إلى اختزال الرب يسوع ليصبح مجرد وسيط بين الله والبشرية، متجاهلا الحقيقة الجوهرية للتجسد، ويجعل الإلهي والبشري منفصلين بشكل لا يمكن إصلاحه ولكن إذا لم يكن الله قد صار إنساناً كاملاً بحق، فكيف يمكن للمخلوقات الفانية أن تشارك في حياته الأبدية غير الفانية؟ هذا هو التساؤل اللاهوتي المصيري الذي كان على المحك في نيقية، والذي يبقى على المحك حتى يومنا هذا: إنه إيماننا بالإله الذي، في شخص يسوع المسيح، أصبح مثلنا في كل شيء، لكي يجعلنا "شركاء في الطبيعة الإلهية
تابع الأب الأقدس بالقول إن هذا الاعتراف الإيماني بالـمسيح هو ذو أهمية جوهرية في المسيرة التي يسلكها المسيحيون نحو الشركة الكاملة. ذلك أنه إيمان مشترك بين جميع الكنائس والطوائف المسيحية في العالم، بما في ذلك تلك التي، لأسباب مختلفة، لا تستخدم قانون إيمان نيقية-القسطنطينية في طقوسها. وفي الواقع، فإن الإيمان بـ "رب واحد يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور... مساوٍ للآب في الجوهر" (قانون إيمان نيقية) يشكّل رباطاً عميقاً يوحد المسيحيين جميعاً بالفعل. وبهذا المعنى، واستشهاداً بكلمات القديس أوغسطينوس ، يمكننا أن نقول أيضاً في السياق المسكوني: "على الرغم من أننا مسيحيون كثيرون، فإننا في المسيح الواحد نصبح واحداً. وبالتالي، أضاف قداسته قائلاً وإدراكاً منا بأننا مرتبطون بالفعل بهذا الرباط العميق، يمكننا أن نواصل مسيرتنا نحو الالتزام الأعمق بكلمة الله المُعلَنة في يسوع المسيح، تحت قيادة الروح القدس، في المحبة المتبادلة والحوار المستمر. وبهذه الطريقة، نحن جميعاً مدعوون للتغلب على عثرة الانقسامات التي لا تزال قائمة للأسف وتغذية الشوق إلى الوحدة التي صلى من أجلها الرب يسوع وقدّم حياته. وكلما ازددنا مصالحة، ازددنا نحن المسيحيين قدرة على تقديم شهادة ذات مصداقية لإنجيل يسوع المسيح، الذي هو إعلان رجاء للبشرية جمعاء. وعلاوة على ذلك، هو رسالة سلام وأخوّة شاملة تتجاوز حدود مجتمعاتنا وأوطاننا
أضاف الأب الأقدس اليوم، تصرخ البشرية بأسرها، التي تعاني من العنف والصراعات، طلباً للمصالحة. إن الرغبة في الشركة الكاملة بين جميع المؤمنين بيسوع المسيح تقترن دائماً بالبحث عن الأخوّة بين جميع الكائنات البشرية. في قانون إيمان نيقية، نعلن إيماننا بـ "إله واحد، الآب". ومع ذلك، لن يكون ممكناً أن ندعو الله "أباً" إذا رفضنا الاعتراف كإخوة وأخوات بجميع الرجال والنساء الآخرين، المخلوقين على صورة الله. هناك أخوّة شاملة بين الرجال والنساء، بصرف النظر عن العرق أو الجنسية أو الدين أو وجهات النظر الشخصية. إن الأديان، بطبيعتها الجوهرية، هي مستودعات لهذه الحقيقة ويجب أن تشجع الأفراد والجماعات والشعوب على الاعتراف بها ووضعها موضع التنفيذ وعلاوة على ذلك، يجب أن نرفض بشدة استخدام الدين لتبرير الحرب أو العنف أو أي شكل من أشكال الأصولية أو التعصب. وبدلاً من ذلك، فإن المسارات الواجب اتباعها هي مسارات اللقاء الأخوي، والحوار الهادف، والتعاون المثمر.
في ختام كلمته، عبر الاب الاقدس عن امتنانه وتقديره لقداسة البطريرك المسكوني برثولماوس، على حكمته البالغة وبُعد نظره، حيث قرر أن نحتفل معاً ذكرى مرور 1700 لمجمع نيقية في هذا المكان تحديداً لقرون خلت. كما توجه بالشكر الحار لرؤساء الكنائس وممثلي الجماعات المسيحية الذين لبوا الدعوة للمشاركة في هذا الحدث الروحي والتاريخي الفريد. وختم بالقول ليستجيب الله الآب لصلواتنا الحارة التي نرفعها إليه اليوم من هذا الموقع المقدس، ويمنح أن تحمل هذه الذكرى الهامة والمفصلية ثماراً وفيرة من المصالحة والوحدة والسلام.
هذا النصّ نُشر على موقع فاتيكان نيوز.