عظة قداسة البابا تواضروس الثاني في قداس عيد القيامة المجيد بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية 2025

من يدحرج لنا الحجر ؟

أهنئكم جميعًا بعيد القيامة المُجيد، وأصلي أن يفيض قلبكم بالبهجة ، ويملأ الله أيامكم بروح الرجاء ، كما أتوجه بالتهنئة لكل الكنائس القبطية ، الأيبارشيات والأديرة القبطية المقدسة المنتشرة في العالم ، التي تُعلن اليوم أعظم رسالة: "المسيح قام! حقًّا قام!"

هذا العيد الذي يُجسِّد انتصار الحياة على الموت، والنور على الظلمة، والمحبةِ على كلِّ شر، ففي قيامة السيد المسيح تتجدد البشرية، وتنفتح أبواب السماء لتدشين عهدٍ جديدٍ من المصالحة بين الله والإنسان. إنه اليوم الذي رأينا فيه القبر فارغ معلناً أن المسيح قد غلب الموت ،وصار الصليب بابًا إلى الحياة الأبدية.

ولكنى أقف معكم عند سؤال رددته المريمات وهنّ في طريقهنّ إلى القبر "مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ؟" (مرقس 16: 3) لقد كان هذا التساؤل تعبيرًا عن عجز البشرية أمام الحواجز... لأن حجرًا كبيرًا كان قد وُضع على باب القبر. كان مستحيلا على النسوة ان يدحرجن الحجر…أنه حجر يسدّ الطريق، طريق الحياة .

هذا التساؤل ليس للمريمات فقط، بل هو تساؤل وصرخة للإنسانية ، منذ آدم وإلى أخر الدهور فآدم خرج من الجنة وحمل معه حجر الخطية الذي فصل بينه وبين الله ، وتسأل من يدحرج هذا الحجر ، فالخطية والشهوة التى حركت أدم وحواء شِلّت ارادته وحرمته من متعة الحياة مع الله .

قايين قتل أخاه هابيل وبعدها صرخ قائلاً "ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ" (تكوين ٤: ١٣)، ووضع حجر بينه وبين كل الناس ، وصار "تائِهًا وَهَارِبًا عَلَى الأَرْضِ" (تكوين 4: 12)حتى انه كان يهرب من البشر لكى يستطيع أن يعيش .

نوح صلى وسط الطوفان: "من يرفع حجر الغرق؟"، فقد كانت الانسانية غارقة فى الخطية ،" وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ"(تكوين 6: 5)لقد فسدت البشرية وانتشر الشر والعنف على الأرض،وغرق العالم .

عاش توما أسوأ أسبوع في حياته يئن تحت حجر الشك والحيرة وعدم الإيمان. ربما تساءل في نفسه: هل يُعقل أن المسيح قام؟ ثم قال: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، ، وَأَضَعْ أصبعى فى أثر المسامير ، وأضع يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يوحنا ٢٠: ٢٥).

أن الحجر الذي تخشاه المريمات هو ذاته الذي نعيشه كل يوم ، حجر الخطيئة الذي يُثقِل ضميرنا ويُبعدنا عن الله ، حجر الألم الذي يظهر في تجارب الحياة القاسية ، حجر الشك الذي يُظلم إيماننا وسط الأزمات. و كل يوم تصرخ الأنسانية "من يرفع أحجار المرض، الفقر، الخيانة، الوحدة، القلق، القساوة ، الهموم ، الرياء ، الكذب ، الصراع ، الحرب؟؟؟. أن الحجر هو رمز للخطية التى أصابت الانسان ولكن ماذا فعلت فى الانسان ؟؟

1- الخطية أصابت الفكر بالظلام :

فالخطية تُفسد العقل والفكر معًا، كما يقول الرسول بولس:"لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ.وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ" (رومية 1: 21-22) ، الخطية تُشوِّش رؤيتنا للحق، وتجعلنا نرى الحق كعدو، والشر كخير ، هكذا فعلت الخطية بفرعون، حتى أنه كلما زادت الضربات، ازداد فرعون عنادًا، حتى ظن أن قوته تُضاهي قوة الله!، فالخطية جعلته يرى معجزات الله كتهديد لعرشه، لا كرسالة خلاص، وهكذا فقد الأستنارة . كذلك راه بيلاطس تهديد له بعد ان طلب منه اليهود اصلبه أصلبه دمه علينا وعلى أولادنا ، لذلك أمر بجلده وصلبه.

2- الخطية أصابت الضمير بالضعف:

الضمير هو النور الداخلي الذي وضعه الله في الإنسان ليميز بين الخير والشر، لكن الخطية تُشوِّه هذه الهِبة، فتصير النفس كسفينة بلا دفة، يهوذا الإسخريوطي بعد خيانة المسيح، حاول إسكات ضميره بإعادة الفضة (متى 27: 3)، لكنه لم يجد خلاصًا، لأن الخطية قادته إلى اليأس!

وعندما أخطأ داود وحاول وقتل أوريا (2 صموئيل 11)، حاول إسكات ضميره بالسلطة والكذب، لكن الصوت الداخلي ظل يصرخ: "أَنْتَ هُوَ ٱلرَّجُلُ!" (2 صموئيل 12: 7) على لسان ناثان النبي. فالخطية جعلت داود يُبرِّر جريمته، ويُطفئ صوت الضمير! .

في محاكمة السيد المسيح أمام المجمع اليهودي والسلطات الرومانية، حيث كان هدفهم هو الحصول على شهادة مزورة تُدين السيد المسيح لتبرير حكمهم عليه. كانوا يطلبون شهودًا زورًا للادلاء بشهاداتهم ضد يسوع. لم يوافق الشهود على شهاداتهم، إذ كان هناك تناقض بين شهاداتهم.

الخطية أصابت القلب بالقساوة :

القلب في الكتاب المقدس هو مركز المشاعر والإرادة والإيمان، لكن الخطية تُحوله إلى "حجر" لا يَرحم! يقول النبي حزقيال: "أَنْزِعْ قَلْبَ الْحَجَرِ من لحمكم وَأُعْطِيَكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ"(حزقيال 36: 26).

الفريسيون: رأوا معجزات المسيح لكن قلوبهم كانت " وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ، وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ،"(متى 13: 15). قسوتهم وصلت إلى حد التآمر لصلب السيد المسيح بدعوى "حفظ الناموس"! ، الشعب نفسه صرخ أمام بيلاطس البنطى أصلبه أصلبه ، دمه علينا وعلى أولادنا ، لم يكتفى بهذا بل ايضا طلب ان يطلق لهم اللص باراباس، أما المسيح فيسجن ويصلب رغم انه لم يفعل خطية .

هذا هو حال الأنسانية ، كلها تصرخ ، تحتاج من يمد يده ويدحرج الحجر ، تحتاج من يشعر بألامها ، وهذا ما حدث عند القيامة ، النسوة ذهبنّ إلى القبر بقلوب خائفة، لكنهنّ وجدنّ الحجر مُدحرجًا، والملاك يُعلن: " فقال لهن: لا تندهشن! أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب قد قام! ليس هو ههنا!" (مرقس 16: 6)...هذا هو عمل القيامة، فالحجر الذي لا يقدر عليه البشر، دحرجته يد الله القوية، والموت الذي يُرهب الأنسان، هزمه السيد المسيح بصلاحه، والخطية التي تستعبدنا، محاها دمه المقدس... الله هو الذي يرفع الحجر!"ومن هنا كانت القيامة المجيدة عطية الخلاص لكل البشر ، وها هى تصلح ما أفسدته الخطية

1- القيامة تُعيد إلى الفكر الاستنارة :

بالقيامة تحول ظلام الخطية إلى نور الحق، كما يقول المرتل: " لأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُورًا." (مزمور 36: 9).

بطرس الرسول الذي أنكر المسيح بضعف، بكى (لوقا 22: 62)، لكنه استعاد فكره المشوش بعد القيامة واستنار ، وبعظة واحده كسب الالاف النفوس بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين .

أيها الأحباء، قيامة المسيح هي انتصار النور على ظلام الخطية، فكما دحرج الحجر عن القبر، يريد أن يَدحرج كل حجر يُظلم عقولنا. لنصرخ مع المرتل:" أَنْرِ عَيْنَيَّ فَلَا أَنَامَ نَوْمَ الْمَوْتِ "(مزمور 13: 3)

لقد أنتقل العالم بالقيامة من الظلام الى النور " سراج لِرِجْلِي كَلامُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي"(مزمور 119: 105).

"صار الانسان بطبيعة مختلفة اذ قيل عنا "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ"(متى 5: 14). ولذلك نحن فى الكنيسة نصلى صلاة باكر كل يوم مع بداية النور تذكارا للقيامة المجيدة .

2- القيامة تعيد إلى الضمير الأستقامة :

الضمير المستقيم ليس ضربًا من المثالية، بل واقعًا نعيشه بقوة القيامة. فكما حوَّل المسيح الموت إلى حياة، يُحوِّل انحرافنا إلى استقامة. فيكون الضمير حاضرا ، وليس غائبا ، ويكون الضمير واضحا وليس مستترا ، ويكون الضمير صوتاً مسموعا فى حياة الأنسان ، لنُردد مع المرتل:«ٱخْتَبِرْنِي يَا ٱللهُ وَٱعْرِفْ قَلْبِي...ٱنْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ باطلا وأهدنى طريقا ابديا » (مزمور 139: 23- 24) ، فالضمير المستقيم ليس نتيجة جهد بشري، بل هبة إلهية من ينبوع القيامة.

القيامة تمنحنا أيضًا رجاءً لا يخيّب. هذا الرجاء يرفع أعيننا فوق هموم العالم، ويجعلنا نسير باستقامة على طريق الملكوت. فالقيامة ليست فقط وعدًا بمستقبل مجيد، بل هي قوة حاضرة تُصلح كل اعوجاج في حياتنا، وتعيد ترتيب أولوياتنا لنضع الله أولًا في كل شيء.كما نردد فى مزمور التوبة " قلبا نقيا اخلق فى يا الله وروحا مستقيما جدد فى داخلي " (مزمور51: 10)

3- القيامة تعيد إلى القلب البساطة :

"إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ، فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ"(متى 18: 3)، البساطة ليست مجرد حالة عقلية أو أسلوب حياة، بل هي صفة قلبية عميقة تُعيد الإنسان إلى صورة الله التي خُلق عليها. والقيامة تُعيد قلوبنا إلى تلك الحالة من البراءة الروحية.

في القيامة، نكتشف البساطة من جديد. تُحرِّرنا القيامة من تعقيدات الحياة ومن الأفكار المشوشة التي تملأ أذهاننا. تجعلنا القيامة نعيش بنقاء نية وقلب متواضع أمام الله، واثقين أن كل ما نحتاجه قد أكمله المسيح لنا على الصليب وقام ليمنحنا حياة أبدية.

البساطة هي أن نعيش في سلام مع الله ومع الآخرين. هي أن نتخلى عن الغش والخداع، وأن نُحِب من قلب نقي دون مصالح أو حسابات. وكما يقول الكتاب: "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ" (متى 5: 8 ).

لنستقبل القيامة بفكر مستنير وضمير مستقيم وقلب بسيط ، نستقبلها بقلوب مفتوحة للسماء، قلوب خالية من كل حجر يُبعدها عن الله. ولنجعل حياتنا انعكاسًا له، ، نسير خلالها في نور المسيح القائم من بين الأموات.

كل قيامة وأنتم بخير، ولتكن الاستقامة والبساطة والاستنارة هى طريق لنا ، نورًا يضيء قلوبنا وبيوتنا.

أخرستوس انستى ..اليسوس انيستى ، المسيح قام ...حقاً قام .

ولا يفوتنى أخيرا أن أنتهز هذة الفرصة لكى ما أشكر السيد الر ئيس عبد الفتاح السيسي على جهوده المبذولة لأعادة السلام فى المنطقة ، ونصلى إلى الله ملك السلام ان يحل بسلامه الكامل فى العالم ، ويقود أصحاب المسؤلية إلى القرار السليم فى الوصول إلى حلول سلمية للسلام والأمان للعالم أجمع .

كما نشكر جميع رجال الدولة المصرية، الذين يبذلون جهودًا جبارة لتحقيق الأمن والاستقرار لهذا الوطن العزيز. ففي ظل التحديات الإقليمية والعالمية، تظل مصر قلعةَ أمانٍ بقيادتها الحكيمة، وشعبها الأصيل

كما نشكر كل الذين قدموا لنا التهنئة بالحضور والمقابلات والمكالمات والرسائل ونصلى أن يديم الله المحبة والروابط العميقة التى تربط جميع المصريين ، على أرض هذا الوطن الغالى ، كل عام وأنتم بخير وعيد سعيد للجميع .

البابا تواضروس الثانى

بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية

ابريل 2025

هذه العظة نُشرت على صفحة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على موقع فيسبوك.

Previous
Previous

غبطة البطريرك روفائيل بدروس الحادي والعشرون ميناسيان يترأس قداس عيد القيامة المجيد

Next
Next

غبطة البطريرك الأنبا إبراهيم إسحق يترأس قداس عيد القيامة المجيد