مع مريم نحو العمق

دعوة لتلاوة صلاة الوردية في شهر تشرين الأول من أجل السلام

غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم

لنكرس شهر الوردية  لشهر تشرين الاول هذا العام، لتلاوة صلاة المسبحة في جميع كنائسنا وبيوتنا، من اجل السلام في العالم، خصوصاً ان الاوضاع الحالية مقلقة، وفضاعات الحروب مرعبة، ولا نعرف ماذا سيكون الغد!

من خلال  قراءتي للنصوص المريمية في تراث كنيستنا الكلدانية، وقبلها الطقوس الليتورجية، ودراستي لها  بتمعن وتأمل، وجدت ان بعض العبارات غير مقبولة، والاوصاف غير موفقة، والمبالغات مشوهة. مريم انسانة  واقعية رائعة، وليست اسطورة! انها عاشت خبرة ايمانية عالية و روحانية أصيلة، إذ حملت المسيح واتحدت به اتحاداً وثيقًا، وهي بالتالي صورة  لكل مؤمن للاتحاد بالمسيح  وحمله الى الاخرين. 

يتحتم علينا ان نمييز بفطنة بين التكريم والسجود. التكريم هو للطوباوية مريم (والقديسين) بصفتها ام المسيح، اما السجود فهو لله الثالوث وحده. 

مريم علامة تحفزنا لان نرى شيئا له معنى في حياتنا. لمريم دور محترم في ليتورجيا الكنيسة، لكن أحياناً  لا ننتبه  الى استقامة العقيدة، اي ما يقتضيه الايمان وما نعبر به عن تكريمنا بنضج لاهوتيّ وقوة روحيّة.

لا ينبغي ان  تقتصر صورة مريم على جانب واحد، انما يجب ان تشمل كل مميّزات  حياتها:

امومتها متعلقة دوما بالمسيح، وبتوليتها التي تندرج في العقيدة الايمانية، نموذج  للبتولية المكرسة في  الكنيسة.

طاعتها وثباتها وتحملها للصعوبات (الهرب الى مصر وصلب ابنها) والانتقادات،  تقودنا  الى  اتباع نداءات الله الذي يقودنا.

اهتمامها بالاخرين كما فعلت بزيارتها لنسيبتها اليصابات ( لوقا1/39-45) وفي أزمة عرس قانا ( يوحنا 2/ 1-13)، دعوة لنا لنهتم باخوتنا لاسيما المحتاجين  منهم معنويًّا وماديًّا.

حضورها مع الرسل (الكنيسة) خصوصًا في العنصرة (يوم حلول الروح القدس) نداء لنا  لكي نلتف حول الكنيسة ونلعب دورنا كابناء فيها، وكما يجب.

مريم كانت ولا تزال قناة للحضور الالهي، لها  مغزى روحي للكنيسة ولكل واحد منا، إذ في مقدورها  ان تساعدنا  على كيف نؤمن،  وكيف نعيش ايماننا في زماننا..

الاستغاثة  بمريم أكتسبت قوة  من خلال الليتورجيا والاعياد المخصصة لها. لذلك  نحتاج إلى ان نحرر  أنفسنا من كل ما يمنعنا من  المشاركة الحيوية   في الليتورجيا.

 من الاهمية بمكان  ان  يكون  لنا  قدراً من الصمت والاصغاء  حتى تدخل الكلمات  الى أعماق روحنا،  فتصبح حضورا لله الذي نحتفل به، و حضوراً لمريم التي نكرمها،  حينها نشعر بدفء الكلمات  وهمسها: ” فكانت تحفظ جميع هذا الكلام وتتأمل به  في قلبها”   (لوقا 2/19).

نحن بحاجة إلى قوة الصمت لاكتشاف الحضور الالهي  في هذه النصوص الطقسية، من خلال الاصغاء الى  كلمات الكتاب المقدس، والتمتع بالالحان الشجية، والاستفادة من الوعظ،  والاستجابة لها بالصلاة والاهتداء والعمل. هذا الاستقبال لكلمة الله بشوق وخشوع على مثال مريم،   سيجعلنا  نلاحظها ( الكلمة) على وجه  المصغي والمصلي الحقيقي.

طقوسنا  الشرقية تحتاج الى لحظات صمت للتأمل الشخصي، هذا ما قررنا تطبيقه  في تجديد طقوسنا، اذ وضعنا لحظات صمت بعد قراءة الانجيل، ورتبة التوبة والمناولة..

في الليتورجيا يجب أن تُلفظ الكلمات بيقظة  ووضوح (اننا نقرأ لانفسنا وللاخرين)،  وكأننا في  غمار الروح، لان الليتورجيا هي قبل كل شي ليتورجيا الاحياء، وشهادة ايمان الجماعة الكنسية،  وليست طقوسا رتيبة ومملة..

 الليتورجيا   هي سرُّ العهد،  أي مكان  الحضور الإلهي، وكأننا  امام  العليقة المشتعلة  (خروج 3/ 1-4)،  بكياننا الحميمي الكامل، اي  في وحدة الجسد والروح والمشاعر.

 ان الايمان مرتبط بالحياة. الايمان رؤية صوفية تتعلق بمفاهيم روحية اساسية تتجدد باستمرار  وليس بالضرورة أن يتغير جوهرها  .. هذا الايمان العامل في الحياة هو اساس الليتورجيا المسيحية التي  ترقى الى القرون الأولى وتستمر  متجددة الى يومنا .. 

 ما نحتاجه هو كيف يمكن  العبور بايماننا الى  عالمنا اليوم،  وثقافتنا. ما آمن به آباؤنا وتأملوه  وصلّوه وعاشوه  ينبغي  ان نعيه، ونترجمه  الى ثقافتنا  الحالية،  لنعيش بيقين معنى  وجودنا، وحتى لا يكون عالمنا اقل ايمانا من السابق… هذا  ما تهدف اليه  الكنيسة الكاثوليكية في عملية  تأوين تعليمها وليتورجيتها ونظمها. وأعتقد ان دعوة البابا فرنسيس الكنيسة الى السينودالية عام 2023 تهدف الى ذلك.

لمريم مكانة كبيرة في الكنيسة ولدى المؤمنين،  فهي ليست أم المسيح المخلص فحسب، بل هي  أم الكنيسة وامنا ” هذا ابنك، وهذه أمك” ( يوحنا 19/26-27).

مثالها وكلماتها القليلة ينبغي ان تمس قلبنا وحياتنا اليوم، كما مست قلوب المسيحيين في الماضي.  هذه الكلمات اشارات واقعية مؤثر ...

هذا المقال نُشر على موقع البطريركيّة الكلدانيّة في بغداد. لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

ضرورة رفع الكلمات المهينة لكرامة الإنسان من الصلوات

Next
Next

الكنائس: وحدة وتنوع