البَسالة في خدمة السَفالة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط 

هذه المقالة هي عن إستغلال الناس للّناس، لا بلّ عن إستعمال الناس للّناس حتى استهلاكهم أو هلاكهم.

هذه المقالة مستقاة من خِبرة عقود في العمل مع الناس وبين الناس وفي التدريس والأبحاث الجامعيّين في مجال الإجتماع والإقتصاد.

"اذا رأيت الفقير منشغلاً فاعلم أنّ الغنيّ قد سَخّرَه" تقول الحكمة الشعبيّة عندنا.

هذا القول يغطّي البعد الإجتماعي الإقتصادي والعلاقة بين الطبقات، وهو لا يجسّد إلّا جزءًا من الحقيقة التي تريد هذه المقالة الإضاءة عليها.

لو إقتصرت المسألة على الإقتصاد واستغلال الأقوى ماديًّا للأضعف ماديًّا لهان الامر ولكان من الممكن إصلاحه عبر سياسة إجتماعيّة وضريبيّة تتوخّى العدالة الإجتماعيّة وتضييق الفروقات بين الطبقات ما أمكن.

ولكن الأمر يتخطّى الحيّز الإقتصادي ليصل إلى الحيّز السياسي أو الديني في بعده الذي يسمّى "نضالي" وهذا ما تهدف إليه هذه المقالة.

في العلاقة بين الطبقات الأمر جليّ ولا جدل حوله: المتموِّل يشتري كفاءات وطاقات غير المتموِّل ويحوّل إنتاجها لصالحه لأنّ نظام الإقتصاد الحرّ يسمح له بذلك.

هنا، لا بدّ لي من توضيح أمر مهّم تفاديًّا لسوء التأويل: لا مجال لشجب أو تهشيم النظام الليبرالي لأنّه أثبت أنّه الوحيد القادر على الصمود تاريخيًّا وتطوير الحياة الإنسانيّة وتحفيز الإبتكار والإبداع الذين يشكلان الوسيلة الفضلى لتخفيف آلام الإنسانيّة – كما هي الحالة في القطاعين الطبّي والصناعي، أو لزيادة الرفاهيّة الإنسانيّة – كما هي الحال في قطاع الإستهلاك، وذلك رغم شجبنا للإستهلاكويّة – consumerism ولمجتمع الإستهلاك عامة. النظام الإقتصادي الحرّ يحتاج إلى تعديلات عدّة لكي يصبح مناسبًا لحياة كريمة للبشر، وفي انتظار ذلك لا بدّ من الإكتفاء بمحاربة الرأسماليّة المتوحشّة وتوجيه السياسات الإجتماعيّة -الإقتصاديّة إلى نظام حرّ قائم على حسن توزيع ثمرات الإنتاج.

أمّا الأمر الذي يهمّنا الإضاءة عليه هنا فيتعلّق ليس فقط بالإستغلال الإقتصادي، الذي يشكّل البعد الأقلّ ضررًا فيه، بلّ بالإستغلال الأيديولوجي أو العقائدي، الإقتصادي منه كما السياسي كما الديني.

المتعاملون بالأيديولوجيّات نوعان: نوع يؤمن بها ويبذل لها كل عطاءاته وصولا لحياته، ونوع عرف ماهيّة اللعبة الأيديولوجيّة ووسائل الإمساك بالنفوس والعقول وتسخيرها لمصالحه ورميها عندما ينال مآربه منها. إنّهم «يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ!" (إنجيل متى 7: 15)

معتنقو الأيديولوجيّات ناس قبلوا محتواها وصدّقوا وعودها، فساروا وراءها حالمين بغدٍ أفضل لأنفسهم أو لمجتمعاتهم. إنّهم أناس صادقون صدّقوا ما قرأوا ولم يسمعوا بمقولة "اقرأ تفرح، جرِّب تحزن".

معتنقو الأيديولوجيّات اقبلوا على دعوة من قائد مؤسّس، قد يكون من الشرفاء في البداية ومن ثم إستحال إستغلاليًّا، كما يمكن أن يكون قد رحل وحلّ مكانه إستغلاليّون، كما يمكن أن يكون التأسيس منذ البداية قائم على توجّه إستغلالي للطيّبين والصادقين أو غير المجرّبين من أبناء المجتمع. من هنا تركيز الأيديولوجيّات على عنصر الشباب والطلاب.

في المجال الإقتصادي، كشف المستور أهون، رغم أنّه قد تعتريه بعض الصعوبات كما كانت الحال في لبنان التسعينات، أيّ ما بعد نهاية الحرب الأهليّة، حيث أصبح كلّ منتقد للسياسات الإقتصاديّة، التي دمّرت لبنان والتي نجني ثمارها اليوم، عدوًا للإعمار. لقد إستُعمِل هذا الإتهام من أجل زجّ لبنان في دَين عام ومشروع نهب ممنهج قد اوصلاه إلى القعر الذي يصعب الخروج منه.

امّا في المجال الديني في الظاهر والسياسي في الباطن، فالأمر أكثر صعوبة حيث يعمد القائد المزعوم إلى اعتماد الماوراء والعالم غير المرئي من أجل السيطرة على أتباعه واستغلالهم حتى هلاكهم.

لا نستطيع هنا أن نساوي بين الذي سَخَّرَ الدين من أجل استغلال الناس وذلك الذي بذل الغالي والثمين من أجل البرّ بأيمانه، كما يعتقد.

هناك كائن توسّل الطرق غير الأخلاقيّة التي تصل إلى حدّ السفالة من أجل التلاعب بمشاعر أناس طيّبين – أو سذّج – والحصول على مبتغاه منهم. مقابل ذلك، هناك أناس طيّبون، أو قليلو الخبرة، أو مضلّلون، أو مغسولو الدماغ، ساروا في طريق ظنّوه الأفضل لدنياهم أو لدينهم ووجدوا أنفسهم في النهاية في آتون قد قضى عليهم.

ما أكثر الأمثلة على هذا الأمر.

في كلّ المجتمعات وفي كلّ الأزمنة وُجد أناس قبلوا أن يتنكبّوا مهمّة تضليل الغير من أجل إستغلالهم، مقابل أناس صدّقوا ما سمعوه أو قرأوه فوضعوا أنفسهم بتصرّف من استرخص تطلّعاتهم وجهادهم وصولا لحياتهم.

هذه هي قصّة البسالة في خدمة السفالة! إنّها قصة أناس وصفهم الرسول بولس "مَمْلُوئِينَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَزِنًا وَشَرّ وَطَمَعٍ وَخُبْثٍ، مَشْحُونِينَ حَسَدًا وَقَتْلًا وَخِصَامًا وَمَكْرًا وَسُوءًا، نَمَّامِينَ مُفْتَرِينَ، ثَالِبِينَ مُتَعَظِّمِينَ مُدَّعِينَ، مُبْتَدِعِينَ شُرُورًا، بِلاَ فَهْمٍ وَلاَ عَهْدٍ وَلاَ حُنُوٍّ وَلاَ رِضىً وَلاَ رَحْمَةٍ" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 1: 28-31).

نشر الوعي والمعرفة والعلم، متلازمين مع تحسين التنظيم الإجتماعي ولجم البطالة والهامشيّة الإجتماعيّة والإقتصاديّة، يشكّلون السلاح الأمضى للجم هكذا ظواهر ويستطيع آنذاك البواسل والشرفاء في المجتمعات أن يوظّفوا طاقتهم في خدمة الخيّرين الذين يهدفون في المجتمع صلاحًا وللإنسانيّة خيرًا.

إذا رأيت في مجتمع ما، أن البسالة هي في خدمة السفالة، فاعلم أنّ هذا المجتمع متخلّف وأنّ تشريعاته ومجتمعه السياسيّ فاسدين.

لذلك نكرّر ما ورد على لسان الرسول بطرس أن "اطْرَحُوا كُلَّ خُبْثٍ وَكُلَّ مَكْرٍ وَالرِّيَاءَ وَالْحَسَدَ وَكُلَّ مَذَمَّةٍ" (رسالة بطرس الرسول الأولى 2: 1).

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

قداسة البابا فرنسيس في زيارة إلى لبنان، فماذا عن موعدها؟