تواريخ مؤلمة

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

الأسبوع القادم يشمل مناسبتين مؤلمتين في حياتنا في المشرق، رغم التفاوت بينها في التاريخ والحجم.

المناسبة الأولى، التي تقع في 22 من نيسان/ابريل، هي ذكرى خطف مطراني حلب، المطران بولس يازجي والمطران غريغوريوس يوحنا إبراهيم، الذين خطفا في منطقة المنصورة غربي حلب، أثناء عودتهما من الحدود التركية، ولم يُعرف عنهما شيء منذ ذلك اليوم، وقد مضى على خطفهما احدى عشرة سنة.

اما المناسبة الثانية، التي تقع في 24 من نيسان/ابريل، فهي بداية المجازر بحق الشعب الأرمني، والتي وقعت في شمال المشرق الانطاكي، كيليكيا، كما في سائر مناطق الاناضول، والتي قضت بشكل شبه تام على الوجود الأرمني في تلك المناطق، وقد مضى على هذه المجازر احد عشرة عقداً.

في كلتا الحالتين ينطبق السؤال-المقولة الذي تتداوله ادبيات الاجتماع السياسي: قتل امرئ في غابة، جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن، مسألة فيها نظر؟

مع الفارق في الحجم بين الجريمتين، في كلتا الحالتين يصح هذا القول: انسانين "قتلا" في غابة، ولا نعرف مصيرهما بعد، وشعب آمن ذبح ذبح النعاج، وما زالت بعض البشرية تُجَهّل الفاعل.

رغم الفوارق بين الجريمتين، يمكننا ان نحدد، وبكل سهولة، أوجه شبه لا تخفى على المحلل البصير.

كلتا الجريمتين وقعتا في نفس المنطقة، التي تعتبر مهد المسيحية المشرقية، علما ان كلمة اناضول مشتقة من جذر يوناني وتعني الشرق.

كلتا الجريمتين حصلتا خلال حروب طائفية عرقية دامية، تداخلت فيها العناصر المحلية والعناصر الدولية، مع كل ما تحتويه من مكائد ومؤامرات مدبرة. أي عند ما يسمى بالعامية عندنا "انقلاب الدول".

كلتا الجريمتين ارتُكبتا امام سمع العالم وبصره، هذا العالم الذي تجاهل ما يجري، كما يحصل في غزة اليوم، فتحول الى شاهد زور لا يجرؤ على الجهر بالحقيقة، لانه فقد الحياء، فعم البشرية البلاء، ولأنه أيضا عاجز عن المساءلة.

كلتا الجريمتين حصدتا أبرياء، وتترتب عليهما تبعات جلى، حقوقية ومالية، ما عدا ما له علاقة بالشرف، الذي من المفترض ان يرعى العلاقات بين ناس المجتمع الإنساني الحديث، مجتمع حقوق الانسان وشرعتها الدولية.

الفارق بين الجريمتين، ان الأولى حصلت في ساعة غفلة ولم يستطع ذوي النوايا الحسنة، لو وجدوا، القيام بأي شيء لمنعها، لانهم علموا بحصولها بعد فوات الأوان، اما الثانية فقد استمرت لعقود كان يمكن خلالها، لذوي النوايا الحسنة، لو وجدوا ايضا، ان يتدخلوا لوقفها، وليس النواح في الصحافة على شعب يباد بدم بارد، وبشتى أدوات الفتك التي تراوحت بين الذبح والتجويع.

اما التنكر للجرائم، فهو سمة مرحلة ما-بعد-الجريمة، حيث يتهرب الكثيرون من مسؤولياتهم، ما عدا من تحركت عندهم قيم ومشاعر الشرف والكرامة الإنسانية. اليس هذا ما جرى في ارتخاس، حيث دم الشهداء لم يجف على الأرض بعد؟ ارتساج هي الفصل الثاني من الإبادة الأرمنية، وموقف المجتمع الدولي كان مخجلاً، كما عند حصول مجازر الفصل الاول.

لا نقصد هنا ان نبخس حق من اهتم وتضامن مع الضحايا وذويهم، ولكننا نسأل ما الذي يمنع البشرية من الوقوف وقفة الرجل الواحد وايصال هذه الملفات المفتوحة الى خواتيمها الحقة؟

في كلتا الجريمتين، كان لمجلس كنائس الشرق الأوسط الوقفات المناسبة، وهي تتجسد بأنشطة متعددة.

الأولى، بيان يصدر عن مجلس كنائس الشرق الأوسط، يوم الاثنين 22 نيسان/ابريل 2024 حول خطف مطراني حلب، المطران غريغوريوس يوحنا إبراهيم والمطران بولس يازجي، وتغييبهم، وقد كان المجلس قد سمى هذا اليوم " اليوم المسكوني للمخطوفين والمغيبين قسراً" في ندوة شاملة أقامها في السنة الماضية، بمناسبة مرور عشر سنوات على اختطافهم، اشتركت فيها نخبة من المفكرين والخبراء في الشرق الأوسط.

الثانية، محاضرة عن المجازر الأرمنية، يلقيها الأمين العام يوم الاثنين 22 نيسان/ابريل 2024، في بطريركية الأرمن الكاثوليك، ويفتتحها بكلمة عن المطرانين المغيبين. في هذه المحاضرة، يقدم الأمين العام مقاربة جديدة للمجازر التي طالت الشعب الأرمني الذي يشكل جزءا أساسيا من النسيج الشرق-اوسطي عموما، واللبناني خصوصاً. هذه المحاضرة هي باكورة سلسلة محاضرات حول المجازر التي طالت شعوبنا في المنطقة، تليها محاضرة عن سيفو، أي مجازر السريان، ثم محاضرة عن المجاعة في لبنان، المسماة كفنو، ثم محاضرة عن مجازر روميي الاناضول، وقد تضاف الى هذه السلسلة محاضرة عن ارتساخ وثانية عن الموصل، وثالثة عن غزة.

الثالثة، ندوة عن بعد، يقيمها المجلس يوم الخميس 25 نيسان/ابريل 2024 حول موضوع "الحروب والخطف والتغييب وسبل جبر الضرر"، ويتكلم فيها خبيران من فلسطين والعراق. هذه الندوة هي الرابعة والعشرين من سلسلة ندوات الكرامة الانسانية التي يقيمها المجلس يوم الخميس الأخير من كل شهر، منذ حوالي السنتين.

الرابعة، عدة برامج إعلامية، سمعية وسمعية-بصرية حول موضوعي الإبادة والتغييب.

 

لقد اعطى المحاضر لسلسلة المحاضرات عنوان "من أجل إبقاء الذاكرة حية"، وهو يهدف من وراءها ان يساهم في تذكر الضحايا والعالم اجمع، بالوجع الذي عاشته شعوب معينة، في مراحل معينة من الزمن، لكي يكون هذا التذكير بمثابة درس للإنسانية، كي لا تقع في التكرار.

 

اذا لم نبقي الذاكرة حية، ولم نتعلم، ونجعل البشرية تتعلم دروساً من احداث الماضي الأليمة، تفاديا لتكرارها في المستقبل، نكون قد مارسنا فعل الخيانة بحق تاريخنا وبحق الضحايا الذين سقطوا من اجل ان يُبقوا شعلة الايمان والانتماء مضاءة.

 

الا قدرنا الرب ان نبر بهم!

Previous
Previous

مومنتوم، أسبوعيّة إلكترونيّة من مجلس كنائس الشرق الأوسط

Next
Next

إطلاق كتاب "الوطن – تعاون الأرمن في الشتات – مسار عمل لمدّة 10 أعوام"