بين الدين والسياسة...المجتمع المربك

English

كلمة الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس في مؤتمر "المسيحيون في المشرق العربي وطموحات الوحدة والتنوير"، المنعقد بين 7 و8 أيار/ مايو 2025 في عمّان.

الجلسة الثانية: الدين والسياسة بين المجتمع المدني والتوظيف السياسي للدين.

بين الدين والسياسة روابط وثقى، تزخر صفحات التاريخ بتجلياتها، وقد سال الحبر الكثير في تحليلها ونقدها وشجبها، لما جرّته على الإنسانية من ويلات. نحن نعيش في لبنان، وفي المشرق الانطاكي-العربي، أبشع مظاهرها، حيث ان ما نجح في لبنان جرى نقله الى سائر المشرق. بين الدين والسياسة حلف نخشى ان يكون ابديا في منطقتنا، كما نخشى ان يكون الخروج منه مكلفا على كافة الصعد.

ولكن بين الدين والسياسة تحديات ايضا، لا يحسن معالجتها الا من اعطى كل حيز حجمه المناسب، وعرف كيف يبقي بينهما مسافة قاحلة ليس من المستحب زراعتها. ان التحديات التي تطرحها السياسة على الدين، والعكس بالعكس، خطيرة، وقد يتوقف عليها جزء من المصير البشري كما حدث في مناطق كثيرة من العالم وفي حقبات مختلفة من التاريخ وبعضها ما زال ماثلا امامنا.

 

منهجية المقاربة

مقاربتي قائمة على المراقبة والمعاناة الميدانيتين، كما على المساهمة في العمل الاجتماعي والتنموي والسياسي في خضم الصراعات الطائفية، كمتطوع أولا في الإغاثة الاجتماعية قبل الحرب سنة 1975 وخلالها خدمتي السابقة كمدير لبرامج لبنان للإغاثة والتنمية، والحالية كأمين عام لمجلس كنائس الشرق الأوسط.

هي قائمة ايضا على حلقات دراسية ومناقشات ومناظرات واستطلاعات وتحاليل لمعطيات ميدانية وإحصائية في مجال النزاعات الدينية خلال دراستي وتدريسي الجامعيين في مجالي الاقتصاد وعلم الاجتماع، وقد تخصصت بشكل جانبي في شؤون المجازر التي وقعت في الشمال السوري وفي الاناضول.

هي قائمة ايضا على عملي في اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار حيث أمثل بطريركية انطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس منذ 1997،

هي مقاربة منطلقة من علم الاجتماع، لذلك ارجو من الحاضرين، او القارئين لاحقا، الا يعمدوا الى الحكم على ما قد أورده من آراء وتحاليل، وجلها مستند اما الى التحليل العلمي او الى المراقبة الميدانية. كما اننا لسنا بصدد الحكم على الظواهر او على الأشخاص، انما بصدد تحليل الأوضاع التي قد تساعدنا على المساهمة في بناء غد أفضل، للإنسان والمجتمع، والدين يشكل حجر زاوية لذلك.

 

الدين: موقعه ودوره في تنظيم الحياة والمجتمع

لقد توقف العلماء، من كافة الاختصاصات، امام الظاهرة الدينية وسطروا أهميتها في حياة الخليقة، ففتحوا أبواب جدالات وتأويلات لم ولن تنتهي.

يَعتبر إميل دوركايم، ابو علم الاجتماع الحديث، ان الدين هو نظام موحَّد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأمور مقدسة، كما يعتبر ان من شأن هذه المعتقدات والممارسات جمع كل المؤمنين بها او المنتمين اليها في جماعة عقائدية واحدة تسمى "الجماعة المؤمنة"، الدين او الطائفة. كما يعتبر ايضا ان للدين بعدا تضامنيا بين أعضاء الجماعة المؤمنة قائم على المعتقدات حول الأمور المقدسة.   

لذلك يعتبر أن الدين هو الضامن للتماسك الاجتماعي الذي يفضي الى التضامن الاجتماعي من خلال الطقوس والمعتقدات المشتركة، كما يؤمن ضبط النظام الاجتماعي.

اما ماكس فيبر فقد اعتبر ان الدين هو إيمان بقوة خارقة للطبيعة لا يمكن تفسيرها علميًا. كذلك يعتقد فيبر أن الدين يمكن أن يكون قوة للتغيير الاجتماعي، كما انه مؤسسة اجتماعية لأنه يتضمن معتقدات وممارسات تخدم حاجات المجتمع.

من جهته كارل ماركس، ورغم فكره الذي يقوم على الالحاد، فإنه لم يكن يعتقد أن الدين كان سيئًا بشكل خاص، اذ رغم اعتباره انه "أفيون الشعوب" فقد اعتبره انه "القلب في عالم بلا قلب" كما يضيف في مكان آخر انه "وادي الدموع".

ويشير ميرسا الياد إلى أن الوجود البشري ديني بطبيعته، لذلك يُعتبر الإنسان العاقل هو الإنسان المتدين أيضا.  

في المحصلة لا بد لنا من ان نقر ان الدين هو عنصر ثقافي كوني موجود في جميع الفئات الاجتماعية، وهذا ما يذهب اليه روجيه باستيد اذ اعتبر ان للدين دورا وظيفيا اجتماعيا ثقافيا لا يمكن الاستغناء عنه وتحتاجه كل المجتمعات مهما كان مستوى تقدمها.

السياسة ودورها في صيانة الجماعات ونمو المجتمع

تشكل السلطة السياسة القوة الضامنة للانتظام الاجتماعي، لذلك نجد انه عندما يدخل المجتمع- او الجماعة – في حالة من الفوضى، فلا سبيل الى استتباب النظام الا عبر السلطة السياسية العليا، أي الدولة او قيادات الجماعات التي تتمتع بالقوة الروحية للإكراه او للإلزام.

دور السلطة اذاً يكمن في إعادة بناء الواقع في حال تضرره ضد قوى الفوضى والتفكك وذلك من اجل الإبقاء على المجتمع او الجماعة واستمرارهم.

اما القيادة فهي العامل الانساني الذي يساعد الجماعة على بلورة أهدافها والسير نحوها. إنها القوة التي تُزَخّم قرارات وأفعال المجموعة البشرية. ويحتاج القائد الى العمل السياسي الضروري لكي يكون قادرا على السيطرة على الأحداث في محيطه، والسير بجماعته نحو الأهداف المبتغاة.  

ويتمتع القائد بسطوة وسيطرة اذ هو الملاذ والحامي للجماعة، او المجتمع طبعا. قوة سطوته متلازمة مع قدراته او مع مشاعر الخوف والريبة التي قد تعيشها الجماعة. إضافة الى ذلك، فهو ملزم بالمشاركة وتاليا، بالمساءلة من قبل الجماعات.

الدين والسياسة – دينامية علاقة متقلبة

على امتداد التاريخ البشري والمعرفي، بقي التفاعل بين الدين والسلطة السياسية موضوعا جدليا، خصوصا في المجتمعات التي لم تستطع بعد العبور الى منطق العقد الاجتماعي، او المواطنة الكاملة، الحاضنة للتنوع، والتي تحسن إدارة هذا التنوع وتحويله الى غنى بدل ان يكون سببا للنزاعات وربما الحروب الاهلية.

لا تتورع القيادات السياسية عن توسل الدين من اجل قيادة الجماعات والسيطرة عليها، وقد تعمد الى انتاج ايديولوجيات خاصة بها مبنية على الدين، او يكون الدين جزءا منها. إضافة الى ذلك، قد يكون للسلطة "متعهدون" ايديولوجيون تجندهم لتأمين نجاح مشروعها في تجييش الاتباع والسيطرة على الواقع.

مقابل ذلك، قد تعمد الجماعات غير الموالية الى اعتماد نفس الأساليب، على مبدأ محاربة الممسك بالسلطة بسلاحه، وقد اظهر هذا الامر نجاحه.

لقد أظهرت الدراسات ان الأيديولوجية هي الوسيلة الناجعة للجم الجماعات وابقاءها في وضع المغلوب على امرها وتاليا، جعلها منقادة لمن يتزعم المشهد الشعبي او السياسي. ويكون عادة البعد الديني أساسي فيها، مما قد يفضي الى أسطرة قائد ما او جماعة ما او معتقد ما او ظاهرة ما.

بواسطة الدين، يُميّع القادة السياسيون نقمة الجماهير، ويبددون وعي المجتمع، ويحولون انظار الناس من المشكلة الحقيقية الى مشكلة وهمية قائمة على التخويف والترهيب وتحويل الطاقة الشعبية الى الماوراء او الى عدو الدين او الطائفة.

في الحالة التي تقوم على فساد استغلال الدين بسبب فساد القوم، يقوم "الايمان"، الدين المؤدلج، باعتباره المبدأ المطلق، بمصادرة كل المبادئ الأخرى لمنفعته وينصب نفسه مصدر العدل، والحق، والخير، والجمال.

لقد وجد السياسيون انه من الضروري، لاستمرار زعاماتهم، ان يمسكوا بالدين، لكي يمسكوا بشعوبهم عبر امساكهم بقيادات دينية متحالفة معهم. هكذا، يصبح الناس في حالة اذعان، يقبلون بكل ما يمارس عليهم، ويوافقون على كل ما يقال لهم.

انها منظومة قاتلة للنفوس والارادات قبل ان تكون قاتلة للأجساد. قاتلة او محبطة للحرية، والتطلعات والآمال والامنيات.

هنا يصبح المؤمن، المحب للخالق والشاكر له على عطاياه، انسانا مطواعا في يد القيادات السياسية، توظفه في مشاريع ليست بالضرورة لمصلحته لا على الصعيد الفردي ولا على الصعيد الجماعي.

الجدير التذكير به ان للأوضاع الثقافية والاقتصادية للناس دور في هذا المسار، اذ ان المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل وتستشري فيها البطالة والهامشية الاقتصادية والمهنية، تكون الأكثر عرضة للتلاعب بمصيرها بواسطة الدين من قبل القيادات السياسية. هذه الجماعات هي الأكثر تقبلا لانتشار الأصولية الدينية والتكفير في اوساطها، وشدة بؤسها تدفعها للسير في ركاب أي مشروع يعدهم بحياة أفضل، ويكون المشروع عادة مرتكز على الدين.

اما الطامة الكبرى فهي عندما ترتكب الفظائع باسم الدين، فتٌهجر شعوب، وتباد جماعات، ويصطبغ وجه المعمورة بالدم، وتاريخ المشرق الانطاكي الحديث لا يخلو من هكذا احداث.

في هذا السياق، يعتبر الفيلسوف اللبناني ناصيف نصار ان العالم العربي محكوم بأيديولوجيا مركبة من أوهام دينية وادعاءات الحفاظ على الهوية عبر رفض الحداثة، ويسمي كلا التبريرين اوهاما دينية واوهام سياسية، يدعمها البؤس والجهل. كما يعتبر ان الاقطاع الديني-السياسي الذي يحكم العالم العربي مصدره ديني، اذ ان الدين اضحى ممارسة سياسية بحكم ادخال المقدس الى عالم السياسة. إضافة الى ذلك، يعتبر ان الدين قد حبس الانسان في الزمن المقدس، ويؤدي الدور الاستراتيجي بالإبقاء على الجهل وترك الناس في حالة من التخلف والتمزق لدرجة الاقتتال.

ختاما، خلال عرضنا لعلاقة السلطة بالدين، وحتى عندما اتى تحليل العلاقة شديد الإشكالية والنقد، لم يغب عن بالنا لحظة ان الحضارة الإنسانية قد بنيت على أساس الدين، المعتقد الأسمى الذي حرك الانسان للوصول الى المستحيل. ان وصفنا لمحاولات توسل الدين في السياسة لا يضير الدين بشيء ولا ينعكس على نوعية قياداته ولا على قيمة إنجازاته. كم نرى كم من القيادات الدينية استشهدت في دفاعها عن شعوبها ضد سلطان جائر او عدو غادر. التاريخ الإنساني مرصع بهذه القيادات الايقونية، تضحي بنفسها طلبا للحق وصونا لمصالح الشعوب.

 

لبنان المتأرجح بين الدين والسياسة

لا اعتقد ان مجتمعا يمكن ان يشكل مختبرا لتداخل الدين والسياسة مثل لبنان، حيث يشكل الدين قاعدة العمل السياسي، اكان لجهة التمثيل الشعبي، ام التعيين في الوظائف الحكومية العامة، من التوزير الى أصغر وظيفة في القطاع العام.

لقد تأسس لبنان على الطائفية السياسية منذ الاستقلال عام 1943، حيث اجترح، من سُموا آنذاك آباء الاستقلال، وثيقة أطلقوا عليها تسمية                  "الميثاق الوطني" التي ورد فيها انه، توخيا للعدل والمساواة، يكون التمثيل السياسي على أساس الطائفة بشكل مؤقت...وكان المؤقت الذي يدوم.

لقد تكرس هذا الامر بعد نهاية الحرب الداخلية-الخارجية عام 1990 في وثيقة جديدة اسموها "وثيقة الوفاق الوطني" والتي بموجبها كان من المفترض الغاء الطائفية السياسية، وجعل التمثيل السياسي خارج القيد الطائفي، وانشاء مجلس شيوخ يكون بمثابة برلمان للطوائف. ولكن، كما في الميثاق الوطني، لم يكن شيء من ذلك واخذت الطائفية السياسية بالاستفحال منذ العام 1990 وتكرست بشكل شبه نهائي في الأعراف، اذاً في الثقافة والعقلية والذهنية وأصبحت البارادايم المعتمد الذي يسير الحياة السياسية، وحتى الاقتصادية في لبنان.

 

الاشكال الطائفية في لبنان

في دراسة سابقة حددت ان الطائفية في لبنان، التي هي أساس العمل السياسي، تتخذ احدى الاشكال الثلاثة حسب الحقبة الزمنية والوضع السياسي العام.

 

1-  الطائفية الدينية

هي شعور انتماء الجماعة المؤمنة المصلّية الى دين واحد يرأسها راع، وهو شعور طبيعي بالتماسك والتضامن وبالعصبية بحكم وحدة الايمان والانتماء المؤسسي. هذا الشعور طبيعي وغير مضرّ إذا بقي في الحيز الديني الايماني البحت، ولا يشكل ضررا ولا خطرا للجماعات الدينية الأخرى اذ ان العلاقة هي مع الخالق جل جلاله.

في هذا السياق، من الطبيعي نشوء مؤسسات تضبط حركية وتنظم علاقات الجماعة المؤمنة ببعضها البعض، مثل دور العبادة ومؤسسات التعليم الديني وغيرها. يؤدي هذا الواقع الى نشوء شخصية فرعية للجماعة المؤمنة كجزء من الشخصية الوطنية الشاملة، وتكون عادة مختلف الجماعات الايمانية في حالة قبول واحترام لبعضها البعض، رغم عدم ايمانهم بمعتقدات بعضهم. هنا يكون الاحترام المتبادل لما هو مقدس عند الغير سيد الموقف.

2-  الطائفية الاجتماعية

هي مستوى أكثر تقدماً من الطائفية الدينية وتنتج عن تواجد الجماعة المؤمنة في بقعة جغرافية معينة، حيث تعيش حياة اجتماعية موحدة قد تشمل جماعة دينية واحدة او أكثر، كما هي الحال في الكثير من متحدات المشرق.

ينتج عن هذا الواقع نشؤ ثقافة فرعية متقدمة متأثرة بالأكثرية المقيمة في هذه البقعة الجغرافية، كما تنتج عنه ما نسميه المساحات الدينية المشتركة.

-        (مسيحيي برمانا، سنة الكورة أو الاشرفية، أهل الحكمة الموحدون في بيروت، شيعة جبيل، أرثوذوكس رأس بيروت)

وكون الانسان على سجيته وبالسليقة كائن اجتماعي يتفاعل ويتناضج مع المحيط الذي يعيش فيه، فان اهل المتحد، على تنوعهم الديني، يكتسبون الهوية الثقافية الفرعية للمنطقة التي يعيشون فيها او المحيط الذي ينشئون فيه، فلا يعود من الممكن التمييز بين أبناء المتحد المحلي الذين هم من اديان مختلفة، اذ تطغي الهوية المحلية على أي انتماء أخر.

تنتج هذه الثقافة عن تناضج بين مكونات المجتمع حتى على الصعيد الديني-الاجتماعي، حيث تختلط العادات والتقاليد ويشترك الجميع في احتفالات ومناسبات بعضهم البعض وكأنهم مجتمع واحد.

-        (أربعاء أيوب في بيروت، جامع الخضر، عيد الغطاس في المتين)

 

3-  الطائفية السياسية

هنا تتحول الجماعة المؤمنة او الجماعة الاجتماعية إلى جماعة سياسية، فتُُسكب الطائفة في الحزبية أو تستحيل حزباً، وتشكل أساس التمثيل السياسي في لبنان، وتعود هذه الظاهرة إلى نظام الملّة العثماني وأنظمة الحماية التي أقامها الغرب للأقوام والجماعات في لبنان والمشرق.

هنا ينتفي الإيمان الديني المرتبط بالطائفية الدينية وتنتفي الهوية الاجتماعية الثقافية الناتجة عن التفاعل الاجتماعي، وتدخل الجماعة في لعبة السلطة والمال والنفوذ والثروة والجاه...تعهدات، وظائف، أزلام وأتباع، الخ، فينتفي دور الدين كمعتقد وكاعتناق ويستحيل فقط غطاءً للمأرب السياسية.

السياسة تتوسل العصبية الأسرع تماسكاً من اجل تثبيت نفوذ او تدعيم موقف، ولو استطاعت ايجاد عصبيات أسرع تماسكاً من الطائفية لكانت توسلتها وتركت الدين جانباً.

في سياق متصل، عندما يكون السياسي في مأزق، شبهة فساد او ما يشاكله، يرتد الى    “يا غيرة الدين“ و يتحول النزاع السياسي حرباً دينية أو أقله نزاعاً دينياً، فتستجلب جماعات الطائفية السياسية كل الأدوات المتاحة مثل النمطية والأحكام المسبقة وخطاب الكراهية والفروقات الدينية وصولا إلى التطرف الديني وتختتمها بالتكفير.

هنا يختفي المواطن الأخر وتنتصب مكانه طائفته ومصالحها حاجزا بين اخوة الامس، ويتحول الصديق إلى خصم أو عدو. وإذا أسقطنا هذا المسار على كل نواحي الحياة، نكون في حرب أهلية باردة أو بالإمكانية.

من هنا القول ان العلة في لبنان، اكان لجهة الإصلاح او حسن تمثيل الشعب، تكمن في الطائفية السياسية.

 

مراحل التحولات الطائفية في لبنان

لقد مرت الطائفية في لبنان بمراحل متعددة منذ الاستقلال عام 1943 وحتى اليوم.

1-   بناء على مشاهداتي الميدانية، يمكنني اعتبار مرحلة ما قبل العام 1975 مرحلة الغيبوبة الطائفية (الكوما). هذه المرحلة الذهبية للحياة الاجتماعية في لبنان ما قبل اندلاع الحرب حيث أصبحت المشاعر الطائفية ضامرة والعلاقات بين الناس على أفضل ما يرام لجهة التفاعل والتناضج الاجتماعيين.

الأمثلة والشواهد على هذا الامر كثيرة وقد جمعتها في أكثر من محاضرة القيتها في ندوات متعددة حول الوحدة الاجتماعية والحوار.

-  (مزار سيدة النورية في وسط بيروت – شجرة الميلاد والشيخ يوسف حمدان - عمتي أدما - رفقائي في كلية العلوم - والدي وأصدقاءه والشكات الموقعة على بياض)

2-   اما مرحلة الحرب الاهلية، 1975-1990، فقد أطلقت على الجزء الأول منها مرحلة ايقاظ الطائفية والعنف الطائفي، ثم مرحلة إيقاظ الطائفيات الفرعية والعنف -ضمن-الطائفة المرتبط بها، وبروز ميل جامح إلى التشرذم وتفتيت المفتت، إضافة إلى إلغاء الأخر. لقد شهدت هذه الحقبة الاقتتال الاشرس بين أبناء الطائفة الواحدة في المنطقة الواحدة. رغم ذلك، بقيت الطائفية الدينية والطائفية الاجتماعية صامدتين في الكثير من مناطق لبنان، وهذا ما ساعد لاحقا على رأب الصدوع التي نشأت في أماكن مختلفة من المجتمع.

هنا أيضا الأمثلة والشواهد على هذا الامر كثيرة وقد جمعتها في أكثر من محاضرة القيتها في مناسبات مختلفة.

- (عملي في مجلس كنائس الشرق الأوسط - نقلات البحص في حاصبيا - حرب كفرمتى بين الاشرفية ورأس بيروت - شهيد الشويفات - طريق حجّاج دير مار جرجس عيدمون - زوار سيدة حريصا وسيدة مغدوشة - العقدة الشيعية في الوزارة - حروب بيروت بين منظمة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي - حروب الضاحية بين أمل وحزب ألله - حروب الشرقية بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر)

3-   اما مرحلة ما بعد الحرب الاهلية وتوقيع "وثيقة الوحدة الوطنية"، والتي تمتد من عام 1990 وحتى اليوم، فقد أطلقت عليها مرحلة الوقاحة الطائفية والفوبيات المتجددة. لقد أرسى اتفاق الطائف المناصفة، فكانت مدخلا للمحاصصة التي كرست ودعّمت ورسخت الهويات الطائفية السياسية من جديد. لقد اتى تدعيم الهويات الطائفية بصناديق الدعم المالي التي تبين لاحقا انها اوكار الفساد مثل مجلس الإنماء والاعمار، مجلس المهجرين، مجلس الجنوب. في تلك الفترة برز ما سمي” الإحباط المسيحي“، وما زلنا نعيش مفاعيل هذه المرحلة حتى اليوم.

هنا أيضا الأمثلة والشواهد على هذا الامر كثيرة وقد جمعتها في أكثر من محاضرة القيتها في مناسبات مختلفة.

- (منع سن قانون للزواج المدني الاختياري - زحمة سير في حارة حريك - مسحراتي رأس بيروت - بيروتي في مرفأ جونية - المختار الغاضب).

 

تحديات الدين والسياسة

عندما نريد التكلم عن الدين في علاقته مع السياسة، في الاشكال التاريخية التي اتخذتها هذه العلاقة، اول ما يتبادر الى الذهن قولين للسيد المتجسد

" مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ"،

و"اعطوا مال قيصر لقيصر ومال الله لله."

بأي سحر ساحر يتحول الدين من خشبة خلاص الى مطية لمصالح بعض القيادات السياسية، تسَخّر بها الشعوب وتلهيها عن مصالحها الحيوية؟

الدين يشكل الاداة الاسهل المنال والقادرة على تحريك الناس بأسرع وقت ممكن، عدا عن انه لا يُخضع مستعمله للمساءلة. ما ان تدخل قوى الغيب وابعاد الماوراء حتى تنتفي المساءلة، هذه الكلمة السحرية التي بدونها لا مؤسسات ولا ديموقراطية ولا تقدم.

 التحدي هنا يمكن في منع حرف الدين عن مساره الأساسي تحت ضغط المصالح السياسية والاقتصادية، وهي متحالفة على مر التاريخ. التحدي هنا يكمن في فصل الدولة عن الدين.

اللهم فاشهد إني بلغت.

عمان في 7 أيار/مايو، 2025

Previous
Previous

مجلس كنائس الشرق الأوسط يصدر الرزنامة المسكونيّة لشهر أيّار/ مايو 2025

Next
Next

ما هي كيفيّة اختيار اسم الحبر الأعظم الجديد؟