واحة رجاء في صحراء اليأس

English

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس هذه الكلمة في الحلقة الاستشارية حول نهج الترابط بين العمل الإنساني والتنمية والسلام الّتي نظّمها المجلس في الأردن بين 15 و16 أيلول/ سبتمبر 2025.

البروفسور ميشال عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

منذ أقدم العصور ومنطقتنا، التي يسميها البعض الشرق الأوسط، ونحن نسميها المشرق الانطاكي، او المشرق العربي، تعيش مخاضا لا يبدو ان له نهاية.

منذ أقدم العصور، قبل التاريخ الإنساني الجلي، تتألم هذه المنطقة نظرا لكثرة الفتوحات التي مرت عليها، وكثرة الشعوب النازحة التي امتها، مما جعل منها خليطا شديد التنوع، وفي بعض الأحيان متنافراً، فانعكس ذلك على نوعية الحياة فيها، وتاليا على العلاقات الإنسانية والثقافية و، حكماً، السياسية.

منطقتنا التي تُطلق عليها القاب إضافية أخرى، مثل "مهد الحضارة" او "مهد المسيحية"، تعيش الازمة تلو الأخرى، تتفاوت في السعة او السبب، وحكما في النتائج.

انه لمن المستحيل ان تجد منطقة بهذه العراقة وبهذا التنوع الديني والاثني، مما ينعكس سلبا على حياة الناس وتطلعاتهم وآمالهم.

منطقتنا منطقة نزاعات بامتياز، حيث تصفى الحسابات الدولية والمحلية بين جميع المختلفين، والمتخاصمين، والناصبين العداء، لذلك هي منطقة تعيش استقرارا هزيلا في كل مراحلها، يأتيها من فتات التفاهمات الدولية، مما ينعكس سلبا على كل نواحي حياة شعوبها.

في منطقة تحمل هذه الميزات، نشأت مؤسستنا، مؤسسة ذات عقيدة وقيم مسكونيتين، تهدف الى التقريب بين المسيحيين بعضهم البعض، وبينهم وبين سائر فئات مجتمعاتهم، بعد قرون من النزاعات والمماحكات والحروب على أنواعها.

المؤسسون الرؤيويون الذين أطلقوا هذه المؤسسة، منذ أكثر من خمسة عقود، كانوا يعون تماما المناخ النفسي والسياسي العام لهذه المنطقة، فوضعوا في شرعتها التأسيسية كل الأهداف التي تتعامل مع هذا الواقع المأزوم، وهذا ما انعكس ايجاباً على كافة نشاطاتها وبرامجها.

مجلس كنائس الشرق الأوسط كان السباق في تضميد جراح شعب فلسطين، الذي رماه اجرام السياسة الدولية خارج ارضه، وصادرها منه لمصلحة من لا حق له بهذه الأرض، لا بوعود الهية ولا بوعود بشرية.

مجلس كنائس الشرق الأوسط كان السباق في بلسمة جراح اللبنانيين عندما عصفت بهم الحرب الضروس، التي استمرت عقدا ونصف كمرحلة أولى، وهي، مثلها مثل حرب فلسطين، ما زالت مستمرة حتى اليوم بوسائل واشكال أخرى.

مجلس كنائس الشرق الأوسط كان من أوائل الذين هبوا لنجدة العراق المحاصر والجريح والذي تحول، بفعل اجرام المصالح والسياسات الدولية الى شعب مذبوح بعد ان كان ينتج الأبحاث العلمية والاختراعات. 

مجلس كنائس الشرق الأوسط هب لمساعدة شعبنا في سورية-الشام، عندما حاصرتها الحروب الداخلية، وشُرد شعبها وقُضي على اقتصادها بعد ان كانت رمز الاكتفاء الذاتي والإنتاجية المتقدمة.

هو القتل المتنقل، يوزعه "القدر" يمنة ويسرة، خبط عشواء، فيصيب من يصيب من المجتمعات التي تُقدم كضحايا على مذبح مصالح الدول العميقة ومصاصي دماء الشعوب المغلوب على امرها.

في كل هذه الخدمات، ذات الطابع الاغاثي والتأهيلي، كان المجلس يشكل السند للناس، على قدر إمكاناته، لجميع الناس، دون السؤال عن انتماءاتهم، كما هو وارد في شرعته التأسيسية، وسياساته التطبيقية.

لقد شكل المجلس النموذج الانقى للمساعدة دون تمييز، ونتائج عمله واضحة للعيان، كما هي مثبتة في تقاريره واحصاءاته، منذ حرب فلسطين، الى حرب سورية-الشام اليوم.

لقد عمل المجلس بموجب تعاليم السيد الذي تجسد من اجلنا واهرق دمه وبذل حياته كفارة عن ذنوبنا التي لا تنتهي. انه السامري الصالح الذي لم يسأل الانسان الجريح عن هويته عندما عاين جراحه وهب الى مساعدته.

اما في المجالات الأخرى ذات الطابع الحقوقي والاجتماعي والثقافي، فقد كان المجلس السباق الى طرح الإشكاليات المتعلقة لحقوق المرأة، والطفولة، والعائلة، وحقوق الانسان، واهمها، الحوار بين الأديان والطوائف والانتماءات الأخرى. في هذا السياق، كان المجلس شريكا مؤسسا في اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار في لبنان، كما في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي.

في كل نشاطاته واعماله، التنموية والثقافية والحوارية، لم يستثني المجلس أي من مكونات المجتمع لأنه، بحكم مسكونيته، يعتبر ان جميع اهل المسكونة هم أبناء الله الذين كرمهم فخلقهم على صورته ومثاله.

ان الثقة العالية التي يتمتع بها المجلس عند جميع مكونات مجتمعاتنا، هي النتيجة لتاريخ حافل بالعمل الحواري الذي يقرب بين الناس، كما هي الدليل على نجاح مقاربته غير التمييزية بين أبناء المجتمع الإنساني.

مجلس كنائس الشرق الأوسط كان، منذ بداياته، وسيبقى، شريكا شريفا وصادقا لأبناء مجتمعه، على مختلف انتماءاتهم، في كل تطلعاتهم. ان المصداقية التي يتمتع بها المجلس عند كافة شركاء الوطن، نتيجة لمواقفه وعمله، لهي نموذج جدير ان تقتدي به كافة مؤسسات المجتمع.

انه، بما هو، وبما يكتنز من شفافية وصدق في التعامل، وخبرة ودراية في مجالات عمله، يشكل موئلا لأصحاب النوايا الحسنة الذين يتطلعون لحياة أفضل، كما هو واحة لبناء السلام.

ان الحوار، في ثقافة المجلس، ليس وسيلة مرحلية للوصول الى هدف آني، بل هو ثقافة متجذرة في أعماق وجداننا، ترافقنا في يومياتنا في علاقاتنا مع بعضنا البعض. انه قيمة أساسية من قيم المؤسسة التي تجمعنا كمسيحيين الى أهلنا واحبابنا في مجتمعاتنا التي نبذل الغالي والنفيس من اجل ان تكون لها حياة أفضل، كما أرادها السيد.

Previous
Previous

فيديو - قديس اليوم 21 أيلول/ سبتمبر: القديس الشهيد الرسول كُدراتُس

Next
Next

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس يلتقي غبطة البطريرك كيريوس كيريوس ثيوفيلوس الثالث في أستانا