انين الارض
ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس هذه الكلمة في المؤتمر الثاني في اللّاهوت البيئي الّذي نظّمه المجلس برعاية قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة، تحت عنوان "السلام مع الخليقة، آفاق روحية وعملية من الشرق"، وذلك بين 10 و11 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2025، في الكاتدرائيّة المرقسيّة القبطيّة الأرثوذكسيّة، العباسية - القاهرة.
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
هي هبة الخالق الذي استودعنا إياها، حيث وضعنا عليها وسمح لنا بالتنعم بها لكي تكون لنا حياة أفضل،
هي موطئ قدمينا، مرقد اجسادنا، مصدر هوائنا ومائنا وخضرنا، ومرعى مواشينا، والاهم من ذلك، اليابسة التي نشيد عليها مساكننا، حيث تنمو اسرنا،
وهبنا إياها الخالق جميلة، نظيفة، نسيمها عليل ومائها سلسبيل،
وهبنا إياها جبالا ووديانا وأنهرا، مكسوة بالزرع، ومزدانة بألوان ابتدعها الخالق لكي نمتع بها ناظرينا،
بحثنا فيها فوجدنا ما يسد حاجاتنا، كل حاجاتنا، الابتدائية والمتطورة،
وطفقنا نستثمرها بشتى الأساليب والتقنيات، بحثا عن سد حاجات اكثر، او بحثا عن ربح زائد.
صامتة بقيت لآلاف السنين، تتحمل جور البشر، وفي العديد من الحالات، جور المناخ،
بصمت كانت تنظر الى تزايد عدد القاطنين عليها، وكانت تستوعبهم،
بصمت تركت لسكانها اعتماد ما يرونه مناسبا لرفاههم وتقدمهم،
صبورة هي الأرض،
حاضنة هي الطبيعة،
تعطي من دون حساب،
وعطاءها لا حدود له،
منذ آلاف السنين ترفد الانسان بما يحتاجه للبقاء والاستمرار والنماء،
وهو ينهل من معينها،
من دون حسيب ولا رقيب،
من دون مساءلة،
فانتشر العمران،
واستفحلت الصناعة،
واتت الحروب تزيد الطين بلة،
متضافرة مع متطلبات الرفاه،
هما النقيضين يعيثون في الطبيعة تنكيلا،
متعاملين معها كسلعة صامتة،
لا تعترض على ما تتعرض له،
وعندما بلغ السيل الربى، تحرك ذوي العقول النيرة،
وأطلقوا الصوت عاليا،
منذرين البشرية ان الحاضر مخيف والآتي أعظم،
فارعوى البعض،
والبعض الآخر لم يكترثوا،
ودخلت البشرية في صراع بين من يريد الاستثمار من دون حساب، ناظرا فقط الى الأرباح المكدسة،
وبين من يريد لجم المسار معتبرا انه لم يفت الأوان بعد،
واحتدم الصراع، وعلت الأصوات، واُنشأت المؤسسات المتخصصة، من شركات استثمارية صديقة للبيئة، الى جمعيات وأحزاب تهدف الى حماية ما تبقى من البيئة،
وتحركت الدول، فسنت التشريعات، وارست أنظمة للرقابة،
وانطلق الابتكار البيئي، من الفرز الى التدوير الصناعي، الى الاحتراق الكامل لمصادر الطاقة، الى الإدارة الخضراء، واللائحة تطول،
ولكن رغم ذلك بقي اللابيئيون اقوى،
لان الفساد اقوى من الاستقامة، والإهمال اقوى من العناية،
واستمر العبث بحاضنتنا الدهرية، هبة الخالق، بوقاحة صامتة، وتوغل مفسدوها الى ابعاد جديدة، سرعت مسار الاهتراء،
الى ان وصل وقت أصبحنا نسمع انين هذه التي صمتت دهورا،
تحركت هذه الصابرة وبدأت تكثف وتسرع ارسال الإشارات،
وأصبحنا نسمع انين الأرض اكثر وضوحا، واعلى من ذي قبل،
لقد تخطينا الخطوط الحمر وتمادينا في غينا، مستندين على صمت هذه الام الجميلة،
هبة الخالق لنا، اعطانا إياها مع الحياة،
فهي إذاً جزء منها،
هي مكملة لها، وحاضنة لسلامتها،
هي البيئة تئن اليوم،
هي الأرض تقول لنا كفى! لقد تماديتم،
ماذا تركتم لغدكم؟
ماذا تتركون للأجيال القادمة؟ لمستقبل الإنسانية،
لقد آن وقت التحرك،
باسم العلم وباسم الخالق،
العلم يقول لكم لقد دمرتم حاضنة حياتكم،
والخالق يقول لكم ماذا فعلتم بهبتي؟
والاجيال التي لم تولد بعد تقول لكم ويحكم ماذا فعلتم،
الا تخجلون مما اقترفت يداكم؟
اما نحن المجتمعون ههنا، فإننا نقول للرب،
رحماك يا باري الخليقة،
لا تحاسبنا على ما فعل السفهاء منا،
لقد حولوا وديعتك الى ركام،
اما نحن فقد تدخلنا باسمك،
من اجل إيقاف التقهقر،
من اجل انقاذ ما تبقى،
نحاول اخذه من براثنهم،
بكل ما اوتينا من ايمان وعزيمة،
سوف ننقذ وديعتك،
ونعيدها نظيفة معافاة الى أبناء الحياة،
لكي ينعموا بحياة أفضل، ويمجدوا اسمك القدوس في كل حين!
القاهرة 11.10.2025