في الشراكة الروحية وسياسات المؤسسات

English

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس هذه الكلمة في الاجتماع السنوي الّذي عقده المجلس مع شركائه، بين 10 و11 أيلول/ سبتمبر 2025، في مركز لقاء - الربوة، لبنان.

البروفسور ميشال عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

لقد مضى بعض الوقت منذ اجتماعنا الأخير حضوريا، وكانت المنطقة والعالم قد مروا بتحولات وازمات عديدة، بعضها قد غير وجه أقاليم كبيرة وذات مواقع استراتيجية بالنسبة الى السياسة والاقتصاد على الصعيد العالمي.

خلال تلك الفترة عاش لبنان وفلسطين، وغيرها من بلدان الشرق الأوسط والعالم العربي كوارث ونكبات، انعكست على هذه البلدان بشكل جذري واحدثت تحولات قد تكاد تكون بنيوية.

في خضم هذه الاحداث، تنكب المؤسسات التي اخذت على عاتقها بلسمة جراح الناس ومشاركتهم في حمل اعبائهم، على القيام بواجبها قدر المستطاع وحسب الإمكانات المتاحة لها، ولكن في ظروف اقتصادية لا نستطيع ان نصفها بالمريحة بالنسبة الى العالم غير الصناعي والذي يعاني من أزمات لا عد لها ولا حصر.

تعمل هذه المؤسسات بمنطق الحجر الذي يسند الخابية، او بمنطق فلس الارملة، ومقولته الأساسية "لا تعطني سمكة، بل علمني كيف اصطاد" أي بمنطق التعويل على الرأسمال البشري والكفاءات التي تنتج عن تجويده وتنميته، على ضوء الشح في القدرات المادية، لأسباب ليست خافية على أحد.

ان مقولة بناء البشر قبل الحجر ليست واقعية في عصرنا الحالي، لان بناء القدرات الإنسانية، او الدراية، يصبح هدرا إذا لم يكن هناك "حجر"، أي موارد مادية تشكل دعما لهذه القدرات الإنسانية وترفع انتاجيتها. لا بد من ترافق بناء البشر مع بناء الحجر من اجل رفع الفعالية الإنتاجية والخروج بالمجتمع من حالة الفقر الى بعض من الاكتفاء، كمقدمة لتكدس رأس المال الذي يقود الى النمو الفعلي.

هنا يكمن بيت القصيد في مسألة الدعم الدولي الذي تقدمه البلدان ذات الفائض الصناعي، الى البلدان ذات العجز الاقتصادي، والناتج عن بنى اجتماعية-ثقافية هزيلة ومخلعة وقد مضى عليها الزمن، فهي تصلح لزمان قد افل.

لقد درجت تسمية هذه العلاقة بالمانح والمتلقي، مما يعني ان هناك من يهب موارد مادية لمن هو بحاجة اليها من اجل تمويل مشاريع قد تساهم في تحسين مستوى حياته.

لقد بدأت هذه العلاقة شبه مادية بحت، حيث كانت تبحث الدول ذات الفائض المالي، عن محتاج لهذا الفائض، فتعطيه إياه، اما لأسباب اقتصادية، مثل منع ورود العمال النازحين إليهم، او لأسباب سياسية، مثل توجيه سياسات هذه الدول العاجزة، او لأسباب دينية، أي من باب التضامن وتطبيق تعاليم الايمان، وهذه كانت حالتنا حتى امد ليس ببعيد.

ولأنه، وفقا لمنظومة تالكوت بارسونز، أي ان الانسان الاقتصادي ينتج الانسان الاجتماعي، وهذا الأخير يتخطاه، فقد تحولت ثقافة العلاقة بين الواهب والمتلقي الى ثقافة الشريك الذي له كلمته فيما تؤول اليه الأمور، ونشأت، منذ ثمانينات القرن الماضي، ثقافة الشراكة وباتت كل العلاقات علاقات شراكة وحتى أسماء المؤسسات والدوائر أصبحت مستوحاة من ثقافة الشراكة هذه.

انه لتحول جذري في العلاقة بين الشمال والجنوب، ولا يمكن لاحد ان ينكر فضل الكنيسة وقيم المسيحية ومؤسسات الكنائس في هذا التحول الثقافي في ذهنية الغرب ونظرته الى الأمور.

في هذا السياق، اود ان أؤكد، وانا في الحركة المسكونية منذ العام 1981، ان للكنيسة وللهيئات المسكونية المنبثقة عنها، الدور الأكيد في التحولات الثقافية في الغرب، على صعيد نظرة الشعوب الى شتى الأمور والقضايا الشائكة المطروحة على الساحات الإقليمية والدولية.

اما ما يقلق اليوم فهو هذا التحول في سياسات الدعم المالي التي تعتمدها مؤسسات المجتمعات ذات الفائض الصناعي، ويمكن اختصاره بالتالي:

ان التراجع في الدعم المالي الآتي من الكنائس، والناتج عن تراجع التزام عامة الناس بالكنيسة ونشاطاتها، أدى الى ان تعمد الكثير من المؤسسات، ومن اجل استمرار رسالتها، الى البحث عن مصادر تمويل خارج مجتمع المؤمنين، خصوصا لدى الشركات الكبرى التي تعمل بمنطق المسؤولية الاجتماعية، او لدى هيئات التنمية الحكومية لهذه الدول، بناء على سياستها الخارجية. وهنا يكمن التفسير الأكثر منطقية لتراجع الدعم المادي الحر الآتي من هذه المؤسسات، لحساب الدعم المقيد بسبب سياسات معينة تنتهجها هذه الحكومات او هذه الشركات العملاقة المهتمة بالشأن العام.

ان تراجع الدعم غير المقيد من شأنه ان ينعكس سلبا على نمو المؤسسات المتلقية للدعم، اذ يمنع عنها أي عمل بحث-للتنمية بسبب تقيدها بشروط الهيئات المانحة.

هنا نشأت فجوة بين ما يراه مسؤولو المؤسسات المانحة، المتعاطفين الى اقصى الحدود مع المؤسسات المتلقية للدعم، من جهة، ومعايير عمل هذه المؤسسات المانحة، ويقيني ان هناك جدالات كبيرة ومتقدمة حول هذا الامر.

إزاء هذا الواقع، لا بد لكوادر المؤسسات المانحة، بالتنسيق مع كوادر المؤسسات المتلقية، ان ينسقوا الجهود وتطلعات العمل فيما بينهم، خدمة للمنكوبين، والمعوزين، وثقيلي الاحمال، والمنهكين، الذين يحاول القادرون الشرفاء إيجاد أيام أفضل لهم.   

 بين ما هو روحي وما هو مؤسسي هوة ليس من السهل ردمها، كون ان هناك دائما فوارق بين الاعتبارات الروحية، او الشخصية او المعنوية من جهة، والاعتبارات المؤسسية من جهة أخرى، لذلك لا تجسد المؤسسات في سياساتها دائما إرادة الافراد الذين يعملون فيها او يقومون بإدارتها.

في نهاية كلمتي لا بد ان اعبر عن فرحي لاستقبال شركاء بكل ما للكلمة من معنى، حيث للشراكة الروحية والمحبة المتبادلة والقيم المشتركة التي تكونت عبر تناضج استمر لعقود، نفس الأهمية التي هي للشراكة المادية التي تتمثل بتغطية اكلاف المشاريع، او بالدعم المالي عامة.

أتمنى ان نكون قادرين على الخروج من هذا الاجتماع بعلاقات امتن، ورؤية متقاربة للأمور، خدمة لمن هم في انتظار ان تمتد يدنا إليهم لكي نرافقها في سيرها نحو حياة أفضل، مزينة بالكرامة التي تساوي وجود الانسان.

الكرامة هي احدى اهم وصايا المخلص، جسدها في كل ما قال وفعل، ولا بد لنا ان نكون أداة لصيانتها.

بارككم الرب جميعا في خدمتكم لكي تكون لبني البشر حياة افضل.

Previous
Previous

السلام مع الخليقة. دعوة إشعيا النبوية

Next
Next

فيديو - مقابلة خاصّة حول "موسم الخليقة" عبر قناة "سات 7" مع مدير دائرة الشؤون اللّاهوتيّة والعلاقات المسكونيّة في مجلس كنائس الشرق الأوسط الأب د. انطوان الأحمر