الى الأردن بمحبة
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
تفد الى الأردن الحبيب قيادات دينية مسيحية، إضافة الى نخب من المفكرين المسيحيين والمسلمين، للاشتراك في لقاء فكري تشاوري حول موضوع "المسيحيون في المشرق العربي وطموحات الوحدة والتنوير". ويتوقف اللقاء امام مساءل ذات أولوية في حياتنا العامة في المشرق الانطاكي-العربي وعلى علاقة مباشرة بمصير شعوبنا ومستقبلها.
اما هذا الحدث الفكري فهو من تنظيم المعهد الملكي للدراسات الدينية، ويجري تحت رعاية وبمشاركة سمو الأمير الحسن بن طلال، رئيس مجلس أمناء المعهد.
يتمحور هذا اللقاء الفكري حول كرامة الشعوب وحقوقها من منظور مسيحي-إسلامي، والدين والسياسة بين العلمنة والتوظيف السياسي للدين، والأخلاق من منطلق ديني، والتراث المسيحي الإسلامي والهوية العربية المشرقية الجامعة، والوحدة والتنوع والتعددية في المشرق.
الموضوع العام للقاء، ومواضيع الندوات التي يشملها، يؤشرون بشكل واضح الى وعي عميق لدى قيادات المملكة الأردنية الهاشمية، وعلى رأسهم جلالة الملك عبدالله الثاني، وقيادات المعهد، لأهمية التنوع الذي يشهده مجتمع الحداثة، كما الى أهمية حسن رصد ديناميات هذا التنوع وحسن ادارته.
إضافة الى ذلك، يشير اللقاء الى محبة وتقدير عميقين لدى أولياء الأمور في المملكة للمسيحيين، وهذا ليس بالأمر المستجد، فهذه العائلة الكريمة قد أظهرت انسانيتها ومحبتها للمسيحيين منذ أيام جدها جلالة الحسين بن علي الهاشمي، شريف مكة، الذي يعود له الفضل بإنقاذ من لجأ الى الشمال السوري هروبا من مجازر العثمانيين من ارمن وسريان.
ان المحبة، واغاثة المنكوب، والتعاطف، والاخوة الإنسانية هي سمات تتحلى بها هذه الاسرة الكريمة، اذ ان هذه القيم يتوارثها أبناء الاسرة من جيل الى جيل، بالتربية وبتعلم الابن من الاب والجد. هذا ما شهدناه في ملاحظاتنا في العمل في الحوار بين أبناء الأديان في مجتمعنا منذ أكثر من ربع قرن في اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار في لبنان: ان التربية على هذه القيم هي عائلية بامتياز قبل ان تأتي عبر المدرسة او المجتمع خلال التنشئة الاجتماعية الثي يمر بها كل انسان. من الصعب جدا ان ينتج اهل منفتحون اولادا متعصبون او منغلقون، والعكس بالعكس.
لقد أيقن القيمون على الأمور في المملكة ان الاستقرار الاجتماعي امر ليس بالصعب إذا اُحسنت إدارة الأمور، بواسطة قيادة حكيمة ومؤسسات حكومية تتعامل مع الناس بالعدل وحسب الأصول. ان مشكلة النزاعات في العالم هي حقوقية قبل أي شيء، ولا يمكن تأمين الاستقرار الاجتماعي الا عبر نشر العدل بين الناس.
في سياق متصل، لقد أظهرت لنا الأبحاث التي نقوم بها منذ عقود حول الاضطهاد والمجازر في المشرق الانطاكي-العربي، والاناضول، وكما نوهنا أعلاه، ان جلالة الحسين بن علي الهاشمي، شريف مكة، كانت له اليد الطولى في انقاذ الألوف من الأرمن والسريان الذين لجئوا الى الشمال السوري، ورسالته الى الجيوش العربية المرابطة هناك قد دخلت تاريخ وثائق الشرف، اذ كان فيها السبّاق في الاخوة الإنسانية يوم لم يكن هناك لا شرعة حقوق انسان ولا مشتقاتها.
ان ما قام به هذا القائد الإنساني الرؤيوي يستحق التوقف عنده وتحليله وتعميمه على الناس لكي تعرف أكثر عن تلك الحقبة وظروف مبادرة شريف مكة، أولا من اجل احاطة ذكراه بالتكريم الذي تستحقه، وثانيا من اجل ان تكون مبادرته الإنقاذية موضوع قدوة للناس، وثالثا من اجل ان نقول للغرب اننا شعوب حضارية تنتج قوما يتمتعون بإنسانية عالية يوم كانت الإبادة عملا معتادا، تمارسه الجماعات على بعضها البعض، والغلبة للأقوى.
لا بد ان ننوه الى ان ما قام به الحسين بن علي الهاشمي، شريف مكة، قد يكون موضوع مؤتمر هو بصدد الدرس حالياً.
ان مجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي يعمل في الحوار الاجتماعي منذ تأسيسه قبل نصف قرن، والذي يعتبر الحوار والتأخي بين الناس قيمة إنسانية أساسية، يثمن مبادرة القيمين على المعهد الملكي للدراسات الدينية، كما يثمن مبادرة الجد المؤسس، ويثني على هذا المنطق في رؤية الأمور، كما يثني على طريقة التعامل مع الأمور من قبل القيمين على هذه البلاد الغالية، ويشد على يدهم توخيا للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، الشرط الأول والاساسي للتنمية الاجتماعية والرفاهية.
نصلي الى الرب القدير ان ينير عقول الناس في العالم، وان يجعل الصفاء في قلوبهم، لجما للتمييز على انواعه، وحسرا لخطاب الكراهية الذي يجد في مجتمع الحداثة ارضا خصبة له، ونقول لهم ما قاله السيد المسيح في موعظته على الجبل "طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون".
حفظ اللّه هذه المملكة المباركة، والقيمين عليها، وجعل تقدمها مستمرا، اذ هي تشكل عنصر توازن أساسي في المنطقة.