عظة غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عيد سيّدة الورديّة

تجدون في التّالي عظة غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، في عيد سيّدة الورديّة، يوم السبت 4 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2025، في كنيسة سيّدة الورديّة – زوق مصبح، لبنان.

"أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة اللّه ويعملون بها" (متى 12: 49-50).

1. قبل أن تكون مريم العذراء أمّ يسوع بالجسد، فهي أمّه بالروح، إذ قبلت الكلمة بإيمانها وعقلها وقلبها وعملت بها بإرادتها، حتى تحوّلت الكلمة جنينًا في أحشائها. هكذا نحن عندما نقبل كلمة اللّه ونعمل بها، تسكن فينا، وتتجلّى في أعمالنا وتصرفاتنا، فنستطيع أن نقول مع بولس الرسول: "أنا حيّ، لا أنا، بل المسيح حيّ فيَّ" (غل 2: 20).

بهذا المعنى قال الرب يسوع: "إنّ أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة اللّه ويعملون بها" (متى 12: 49-50). وهكذا فيما مريم العذراء أعطت الكلمة جسدًا، فنحن نعطيها جسدنا، فتفكّر بعقولنا، وتقول الحقيقة بألسنتنا، وتحبّ بقلوبنا، وتخدم بأيدينا.

2. يسعدني أن أحتفل معكم بعيد سيدة الوردية هنا في زوق مصبح العزيزة، التي خدمتها لمدة 9 سنوات، وهي أولى خدمتي الكهنوتية في رعاياها الأربع: سيدة الوردية، ومار الياس، ومار يوحنا المعمدان نهر الكلب والمسيح الملك، ومار أنطونيوس ومار شربل أدونيس. وفيها أجمل ذكريات حياتي الكهنوتية، مع المرحومَين الأب فيليب الحاج، والأب جورج خليل.

اما اليوم، فكبرت الرعية ونمت وما زالت الرهبانية المارونية المريمية مع كهنة ابرشيين يؤمنون خدمة هذه الرعايا مشكورين. ومشكورة الرهبانية على تامين هذه الخدمة.

3. يسعدني أن ألتقي بكم جميعًا في هذا القداس المبارك، في هذه الكنيسة العزيزة على قلبي، كنيسة سيدة الوردية. هنا عشت تسع سنوات بينكم، بين أهلكم وأحبائكم، وتعلمت معنى الخدمة الحقيقية ومعنى المشاركة. لذلك، فإن عودتي اليوم ليست فقط زيارة رعوية، بل لقاء عائلي يفيض بالحنين والمودّة وأجمل الذكريات.

أحيّي أهالي البلدة الأعزاء وأصدقائي الذين واكبوني منذ البدايات، وأقول لكم من جديد: شكرًا على السنوات التي قضيتها بينكم، سنوات النعمة والعطاء، سنوات غنية بالاختبارات التي شكّلت جزءًا من هويتي الكهنوتية.

4. عيد سيّدة الوردية الذي نعيشه يذكّرنا بسلاح روحي ثمين، هو المسبحة الوردية. هذه المسبحة ليست مجرد تكرار صلوات، بل هي مدرسة تأمل في حياة المسيح من خلال عينَي مريم. في كل سر من أسرارها، نغوص في سرّ من أسرار الخلاص، فنعيش كل الإنجيل بالصلاة والتأمل.

تاريخ المسبحة مرتبط بالكنيسة التي، عبر القرون، واجهت التحديات والضيقات، لكنها وجدت في صلاة المسبحة حصنًا وسلاحًا، عزاءً وقوة. فالمسبحة هي صلاة الشعب البسيطة، التي تعلّمنا أن نضع يدنا بيد مريم، ونتركها تقودنا إلى يسوع.

5. فالعذراء مريم، في ظهوراتها في لورد وفاطيما، طلبت صلاة الورديّة من أجل نهاية الحروب وارتداد الخطأة إلى التوبة، ومن اجل احلال السلام ،وغايات تقويّة أخرى. والقديس البابا يوحنا بولس الثاني، الذي أضاف على أسرار الفرح والحزن والمجد، أسرار النور، لشدّة تأمّله وصلاته المسبحة، صارح الكنيسة في أواخر حياته قائلًا: "إنَّ كل سرّ حياتي مرتبط بتلاوة مسبحة الورديّة. فلم ألتمس شيئًا بتلاوتها إلّا نلته".

لقد جعل من المسبحة الوردية قلب حياته وسر قداسته. لقد كان يقول دائمًا: "المسبحة صلاتي المفضلة". فهي بالنسبة إليه لم تكن صلاة إضافية أو تكرارًا مملًا، بل درب تأمل عميق في وجه المسيح مع عيني مريم.

لقد رافقته المسبحة منذ شبابه في بولونيا، حيث كان يعيش تحت ظل الحرب والاضطهاد النازي والشيوعي، فكانت سنده وعزاءه. وحين صار كاهنًا ثم أسقفًا ثم بابا، لم يتركها يومًا. كان يحملها في جيبه، ويبدأ نهاره وينهيه بها، حتى إن المقربين منه يؤكدون أنه لم ينم يومًا دون أن يتمّم مسبحته.

في حياته الرسولية، كان يصرّ على أن الوردية ليست صلاة لكبار السن وحدهم، بل هي للشباب وللعائلات أيضًا. فقد أراد أن تكون المسبحة مدرسة للتأمل، للتربية الروحية، ولتعميق الإيمان. ولهذا، أضاف عام ٢٠٠٢ "أسرار النور"، لتجعل المسبحة أكثر اكتمالًا، بحيث نتأمل من خلالها حياة المسيح العلنية بين العماد في الأردن والعشاء الأخير.

لكن ما يميّز يوحنا بولس الثاني حقًا، هو أن المسبحة لم تكن فقط صلاة بيده، بل كانت سرّ حياته. عندما زار لبنان والتقى الشبيبة سنة ١٩٩٧، وأمام اندفاعهم الكبير ورغبتهم ببقائه معهم، رأى أن أفضل ما يقدمه لهم هو أن يسحب المسبحة من جيبه ويبدأ بتلاوتها. وكأنه يقول لهم: هذه هي وصيتي، هذا هو كنزي، هذا هو سر قوتي وسرّ حياتي.

وحتى في أيامه الأخيرة، وهو على فراش المرض، بقيت المسبحة رفيقته الدائمة. يروي الذين كانوا بجانبه أنه كان يرددها بصوت متقطع، وأنه أسلم روحه وهو يمسك بحباتها. هكذا يمكننا القول إن الوردية كانت محور حياته، سر قداسته، وسلاحه الروحي الذي به واجه المرض والاضطهاد والشيخوخة والموت.

واليوم، حين نرفع المسبحة بأيدينا، نحن نرفعها معه ومن بعده، لنكمل هذا الطريق الذي رسمه لنا. إنه مثال حيّ على أن المسبحة ليست صلاة ماضية بل صلاة المستقبل، صلاة الشباب والعائلات والشعوب، صلاة تصنع السلام وتبني الأوطان…

إضغط هنا للإطّلاع على الصور.

هذه العظة نُشرت على صفحة البطريركيّة المارونيّة على موقع فيسبوك، لقراءة المزيد إضغط هنا.

Previous
Previous

زيارة قداسة البابا تواضروس الثاني لإيبارشيّة أبوتيج

Next
Next

قداسة البابا لاوُن الرابع عشر يوقّع أوّل إرشاد رسولي له