المرأة الزانية (يوحنا 8/ 1-11)، رحمة الله لا حدّ لها
بقلم غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو
غبطة البطريرك الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان في العراق والعالم، والرئيس الفخري لمجلس كنائس الشرق الأوسط،
ملاحظة: أرجو قراءة هذا الموضوع الحسّاس بانتباه ودقة
المرأة هي دائماً الضحيَّة بكونها الحلقة الأضعف في مجتمعنا، بينما الرجل إن أخطأ فيمضي مستوراً ومن دون محاسبة! هذه العقلية التي ترتبط بالفكر الذكوري السائد، تحد من تمكين المرأة وإبداعها في مجالات عديدة!
المحافظة على الأخلاق والدين والثوابت الإجتماعية بحاجة الى التوعية والتنشئة والإصلاح، وليس الى القتل المباشر بالرجم الوحشي المُروع!
المشكلة الكبرى هنا هي اختزال الخطيئة في الزنا وتحميل المرأة وحدها مسؤولية هذا العار، بينما لا يُلقى اللوم بحزم على الرجل الذي يُمارس هذا الفعل، ولا يثير ردود فعل مماثلة! في الجانب الآخر ماذا عن جريمة صنّاع الحروب، ومرتكبي الإبادة الجماعيّة، وسُرّاق المال العام.
كان يوجد حول يسوع عدد من السيدات، كُنَّ تلميذات ومبشِّرات، مثلما كان يوجد رجال تلاميذ ومبشِّرون. موقف يسوع منصف تجاه الاثنين، يقوم على المعيار أن المـرأة مـسـاويـة للـرجـل في الإنسانية. هـذا تـصـمـيـم الخـالـق، وليس على معيار Gender الذي يُبنى على الجنس الذي يمثله (ذكر أو انثى). هذا الموقف نجده في قِصة المرأة الخاطِئة، والأختين مرتا ومريم والسامرية والمرأة الكنعانية ..الخ
موقف يسوع هو موقف الله الرحيم، يخالف الشريعة التي وضعها موسى والتي هدفت الى ضبط الأخلاق وحُسن العلاقات الإجتماعية. يسوع يرفض هذه القسوة المفرَطة. تصرُّفه بطريقة “العهد الجديد” يفتح قلوب البشر لمطلب أخلاقي أسمى بكثير: الرحمة الفاعلة. ثورة يُعلنها يسوع لهولاء الفريسيين والكتبة التقليديين،الذين يصفون أنفسهم بالصدّيقين.
المَشـــــهَد
يذكر انجيل يوحنا (يوحنا 8/ 1-11)، أن يسوع كان يُعلِّم في الهيكل. يتقدم منه فريسيون وكتبة ومعهم أمرأة اُمسِكَتْ بخطيئة الزنا (هناك تمييز في جَسَامة الفعل: الزنا adultery مصطلح قانوني يخصّ الخيانة الزوجية، لربما هنا الإشارة الى الدعارة prostitution من أجل المال، أو علاقة عاطفية خارج الزواج cohabitation – المُساكَنَة). أقاموها في الوسط، وقالوا له بنظرات غاضبة: “أمرَ موسى أن تُرجَم..”. في الواقع أن شريعة موسى تأمر برجم الفاعِلَين: الرجل والمرأة1.
أخذ يسوع يرسم بإصبعه علامات على الرمال. لكن لا يُحَدِّد الإنجيل ما كتبه. يميل علماءُ الكتاب المقدس بانه كتب بداية “الوصايا العشر” (خروج 20/ -17، وتثنية الاشتراع 5/ 16 / -21)، حيث يبدأ كلُّ سطر من الكلمات العشر بنفس حرف النفي”لا”: “لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور…”.
الكلمات التي رسمها يسوع على أرض جاءت ليُلفت إنتباه هؤلاء الذين طالبوا بتطبيق صارم و”حَرفي” للشريعة الموسوية. لا شكّ أن الزنا مُدان، لأنه فِعل يُفقِد قيمة الزواج.
في تفسير زمن يسوع، تُفهَم كلمة “الزنا” بشكل أوسع، فأي فعل يُهين العهد الذي قطعه الله مع شعبه يعتبر زنا، لأنه يُهين علاقتهم به. وبكتابته “لا تشهد بالزور”، يُشير الى الفريسيين، إلى نيَّتهم المُخَبأة في قلوبهم، والتي لا تهدف إلى معاقبة المذنب بقدر ما تهدف إلى إيذائه.
في الواقع، جاء الفريسيون لينصبوا له فخًا ويحكموا عليه. إنهم لا يسرقون، ولا يقتلون، ولا يزنون، ولكن لا يُعدّون شهادة زور خطيئة. هكذا، بينما يُظهر يسوع رحمته تجاه هذه الخاطئة التي تُدينها شريعة موسى بالتعذيب بقسوة!
جاء جواب يسوع كالصاعقة تكسر حجر الصوان: “من منكم بلا خطيئة فليرمِها بالحجرة الاولى”. يسوع لم يرفض الرجم، انما طلب منهم ويعتبرون أنفسهم صدّيقين ان ينفّذوا عملية الرَجم. لكن المفاجأة ان صوتاً معارضاً واحدأ كان كافياً لإلغاء الحُكم، وإنقاذ حياة المدَّعى عليها. هذا ما يحدث في الإنجيل مع الفريسيين. طالَبوا في البداية “بالإجماع” برجم المرأة التعيسة؛ لكن يكفي واحد منهم – متأثراً بجواب يسوع – أن يرفض “رمي الحجر” ليغيّر الجميع آراءهم، واحداً تِلوَ الآخر، وليُجمِعُوا على العفو عن المذنبة كما أجمعوا على إدانتها.
بقي يسوع وحيدأ مع المرأة، يريد ان ينتشلها من المستنقع الذي وقَعَت فيه، ويعيد اليها كرامة الروح الانسانيّة. شخص يخطيء ثم يصحح خطأهُ وينهض، عمل حميد، بدل رجمه! سألها أين هم الذين حكموا عليك، أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟ أجابت: “لا أحد يا سيّدي”. فقال لها يسوع: “ولا أنا أيضاً اُدينُك، إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة”. دعاها الى الامتناع عن الخطيئة لا سيما من هذا الوزن، ووجَّهَّها الى التوبة وعمل الخير.
هكذا، يُظهر يسوع رحمته تجاه الخاطئ الذي تُدينه شريعة موسى بالتعذيب بقسوة، وباسلوب ناعم وطريقة جديدة يُخرِجها من هذا السجن، ليعيدها الى ذاتها وكرامتها. هذا العمل أكبر من عملية سحقها بالحجارة وقتلها. تعليم يسوع بالغ الأهمية، يعطي تعزية للجميع حتى يكونوا رحماء فاعلين.
___________________________________________________________________________________________________________________________________
1 طالع عن هذا الحدث كتاب معرفة الله من خلال يسوع للأب ميشيل كينيل وتعريب الأب بيوس عفاص، سلسلة أبحاث كتابية /34، بغداد 2025 ص 60-62.
هذا المقال نُشر على موقع البطريركيّة الكلدانيّة.